رأى الكاتب الصحفي الفرنسي جاك فولورو، في تحليل له حول هجمات باريس نشرته صحيفة “لوموند” الفرنسية، أنه من منظور الهجمات الإرهابية التي وقعت على التراب الفرنسي، كان إقدام مفجرين انتحاريين متعددين على تفجير أنفسهم في وقت متأخر من يوم الجمعة بعد ارتكاب مجازر منسقة في خمس مواضع في وسط باريس، وبالقرب من استاد دو فرانس لكرة القدم في سان دينيس على مشارف العاصمة الفرنسية ،حدثاً غير مسبوق. وكان من بين أهداف باريس مسرح باتاكلان للحفلات الموسيقية الذي احتجز فيه العشرات من عشاق الموسيقى كرهائن.
وأعلن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند صباح السبت أن جماعة داعش الإرهابية مسؤولة عن الهجمات التي خلفت 130 قتيلاً على الأقل.
عملية معقدة
وبحسب الكاتب، فقد سار هذا الهجوم، الذي وُصف بأنه عملية “معقدة” نظراً لتنفيذه مرحلة تلو أخرى، على الأرجح على نمط نوع من العنف شاع في السنوات الأخيرة في مناطق تشهد صراعات مثل أفغانستان أو العراق أو سوريا.
وأوضح الكاتب: تشمل مثل هذه الهجمات التي تنفذها الجماعات المتمردة في جنوب آسيا والشرق الأوسط أفعالاً متعددة هدفها إرباك ضحاياها المرتقبين، حيث تجمع بين التفجيرات الانتحارية والاعتداءات بالأسلحة النارية. ويتم اختيار الأهداف بعناية شديدة نظراً لما تمثله، وأما من بداخلها فيُقتلون عشوائيّاً لا لشيء إلا لمجرد وجودهم في مثل هذا المكان. أما الهدف فهو قتل أكبر عدد ممكن من الناس وبث الخوف والهلع في جنبات المجتمع.
وأشار التحليل إلى أنه قد بدأت السلطات القضائية الفرنسية تجميع عناصر التحقيق فيما كانت فصول عمليات القتل تتكشّف، حيث ركزت هذه السلطات على أربعة إرهابيين دخلوا مسرح باتاكلان وهم يرتدون أحزمة ناسفة انتحارية، ولم يفجروها إلا عندما بدأت الشرطة عملية اقتحام المسرح. وعلى ما يبدو أن أحد المهاجمين أخفق في تفجير نفسه، وأُردي قتيلاً على يد أحد عناصر فريق الأسلحة والأساليب التكتيكية الخاصة الفرنسي.
وجاء قرار التدخل بعد ورود تقارير تحدثت عن إقدام المهاجمين على قتل ضحاياهم بالرشاشات، إما بإطلاق النار على الراقدين على الأرض وإما على من يحاولون الفرار. وقال محقق كان موجوداً في مسرح الحادث طوال الليل: “من الواضح أنهم كانوا عازمين على الاستشهاد”.
وكما الحال مع الهجمات المماثلة في العراق أو أفغانستان، سرعان ما تمكنت شرطة الأدلة الجنائية من التعرف على هويات القتلة الانتحاريين الذي تمزقت أجسادهم إلى أشلاء عند مستوى الحزام عندما انفجرت قنابلهم، وقد ظهرت أشلاء أحد المهاجمين في استاد دو فرانس بالطريقة ذاتها.
الطبيعة المتزامنة للحادث
ولفت الكاتب النظر إلى عنصر آخر جديد طرأ على هذا النوع من الهجمات على التراب الفرنسي هو طبيعتها المتزامنة، إذ يقول ممثلو الادعاء في قضايا مكافحة الإرهاب إن هذا سمح للسلطات بسرعة التعرف على الوقائع كعملية إرهابية واسعة النطاق يُحتمل أن تكون لها عواقب وخيمة، فالإكثار من الأهداف على هذا النحو يُسفر عن زيادة الهلع والبلبلة، فيما بدت المعلومات أكثر تشوشاً مع تنقل المهاجمين لبث الذعر بدلاً من التركيز على نقطة واحدة.
من الناحية النظرية، يقول الكاتب، كانت أجهزة الاستخبارات قد توقعت مثل هذا السيناريو، حيث يقول برنار سكارسيني، رئيس جهاز الاستخبارات الفرنسي في الفترة من 2008 إلى 2012: “عندما كنت أترأس المكتب المركزي للاستخبارات الداخلية، تصورنا هجوماً من هذا القبيل على محطات القطارات أو الملاعب الرياضية أو المسارح، هذا ليس عملاً بلا تبصّر بل هجوم معقد”. واستشهد سكارسيني بـ”السياق السياسي” وتوقيت الهجوم، إذ من المقرر عقد قمة بيئية عالمية (ما يسمى المؤتمر الحادي والعشرون للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ) في وقت لاحق من هذا الشهر.
تصعيد مطرد
ووفقاً للتحليل، يكشف تاريخ الهجمات المنفذة على التراب الفرنسي، وهو تاريخ حديث، عن انحدار تدريجي نحو هذا النوع من الاعتداء، والذي صار الآن نمطيّاً في البلدان الملطخة بدماء الحروب غير المتماثلة بين قوى رفيعة التقنية وخصوم يملكون وسائل أقل لكن لديهم إصرار على تدمير حياتهم مع قتلهم أكبر عدد ممكن من الناس. وهو اتجاه اكتسب زخماً منذ اندلاع الحرب في سوريا في عام 2001، وذلك في خضم مخاوف في فرنسا وأماكن أخرى في أوروبا أيضاً من عودة المسلحين الذي يقاتلون هناك لارتكاب هجمات إرهابية.
علامة تحذيرة مبكر
وأشار التحليل إلى أنه كانت هناك علامة تحذير مبكر تمثلت في الروابط الوثيقة بين الأخوين سعيد وشريف كواشي، مرتكبي هجوم 7 يناير (كانون الثاني) على صحيفة شارلي إبدو في باريس، وحمادي كوليبالي الذي قاد هجوماً منفرداً على متجر للأطعمة اليهودية، مما يشير إلى تنسيق مسبق للخطط.
ولم تتوصل التحقيقات بعد إلى هذا الاستنتاج بشكل قاطع، لكن من الواضح أنه كانت بينهم روابط. وظل الأخوان كواشي وصديقهما كوليبالي يمارسون نشاطهم في فرنسا فيما بين 2010 ومطلع 2015 في إطار “فرع” منطقة بيت شومو (نسبة إلى الحي الذي كانوا يترددون عليه من أحياء باريس) ومضوا في طريق الردكلة والتطرف واشتروا أسلحة وداوموا على الاتصال بأصدقائهم المقربين الذين سبق أن قرروا القتال في صفوف المسلحين في سوريا أو تونس.
تغيير الأسلوب
قبل ذلك بعام، وتحديداً في 24 مايو (أيار) 2014، قام مهدي نموش، الذي كان عاد من سوريا عن طريق تايلند وألمانيا، بقتل أربعة أشخاص في المتحف اليهودي في بروكسل. كان نموش يعمل بمفرده، وهناك أوجه شبه بينه وبين محمد مراح منفذ عمليات القتل في تولوز ومونتوبان في مارس 2012، حيث كان الأول قد عمل كضابط سجن لدى داعش في سوريا، وأما الأخير فزاول مغامراته الجهادية في أفغانستان ومناطق القبائل في باكستان. ولم يأت تطورهما هذا من دون تشجيع ودعم على أيدي المتطرفين الإسلاميين من حولهم، على الرغم من أن الهجمات التي نفذاها كانت مبادرات شخصية.
ويشير التحليل إلى أنه شُنت هجمات عديدة ضد شبكة المواصلات العامة في باريس في صيفي 1995 و1996 وأظهرت بروتوكولاً من نوع مختلف يحمل بصمته الخاصة، حيث هوجمت الأماكن ذاتها في ساعة زحام باستخدام عبوات غاز ومسامير، ونُفّذت هذه الحملة بناء على أوامر من قيادات بالجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية مرتبطين بعناصر ثانوية في مدينة ليون الواقعة في وسط فرنسا، ومن حولها.
وانحصرت هذه الهجمات في شبكات معينة معروفة لدى أجهزة الاستخبارات، وانتهت عندما فُككت الخلايا الإرهابية. وهي تفتقر إلى النطاق الضخم الذي تتسم به موجات العنف التي تجتاح سوريا والتي غلبت على ما يبدو سلطات مكافحة الإرهاب وأتت بوحشيتها غير العادية لتضرب في قلب فرنسا.
المصدر:https://24.ae