وكالة أنباء موريتانية مستقلة

أزمة الهويّة في موريتانيا/الشيخ عبدي ولد الشيخ

تعدّدت التعريفات حول مفهوم ”الهويّة“، غير أن الكلام على ”أزمة الهويّة“ يستدعي التعرّف إلى أبرز مظاهر مثل هذه الأزمة في سياقها التاريخي والجغرافي. فما هي أبرز مظاهر أزمة الهويّة في موريتانيا؟ وما هي العوامل التي كانت وراء تشكّل مثل تلك الأزمة وتجلّياتها؟

الهويّة هي سيرورة ثقافية واجتماعية ورمزية، يُحدِّد من خلالها الفاعل الاجتماعي نفسه وموقعه والجماعة التي ينتمي إليها. كما يُحدِّد من خلالها انتماءه إلى المجتمع العام، وذلك من خلال بنائه العديد من المعاني والرموز حول بعض السمات الثقافية والاجتماعية التي تميّزه عن الآخر، سواء على المستوى المحلّي أم الوطني أم الإقليمي.
فالمحدِّدات الأساسية للهويّة، هي العناصر الثقافية والتراكمات التي يعرفها كلّ مجتمع بحسب تجاربه التاريخية. إلّا أنه من الصعب ضبط هذا المفهوم، لأن الأمر يتعلّق، في الغالب، بهويّات ثقافية ودينية ووطنية وسياسية، ولسنا هنا بصدد الحديث عن مفهوم الهويّة، نظراً لتشعّب التعريفات التي قدّمها الباحثون حوله، والتي اختلفت باختلاف الخلفيّات الفكرية التي يعتمد عليها كلّ تعريف، وحسبنا أن نقدّم بعض الأفكار الأوّلية حول ”أزمة الهويّة في موريتانيا“ والعوامل التي كانت وراء تشكّل الأزمة و تجلّياتها.
برز إشكال الهويّة في موريتانيا مع بداية تحدّد الملامح الجغرافية للقطر الموريتاني خلال السنوات القليلة التي سبقت الاستقلال. وقد أفرزت طبيعة هذا الواقع الجغرافي، المتّسم بالتنوّع العرقي، والخاضع للخيار الجيوسياسي للمستعمِر الفرنسي، كياناً جديداً يضمّ إثنيّات عدّة تختلف في التطلّعات، وتتجاذبها الانتماءات الثقافيّة المتعدّدة شمالاً وجنوباً، وتتعدّد هويّاتها بفعل مؤثّرات تاريخية وحضارية تنافرت حيناً وتقاربت أحياناً أخرى. بحيث أنتجت حالات التقارب والتنافر نخباً سياسية وثقافية تعكس مدى الشرخ الحاصل في بنية النسيج الاجتماعي الموريتاني، عرباً وزنوجاً، وأصبح إشكال ”أزمة الهوية“ يُصاغ في ثنائيّات العروبة والإسلام، العروبة والأفرقة، وهذا ما دفع النخب الموريتانية بتكويناتها الإثنية إلى طرح سؤال: ”من نحن؟ وماذا نريد أن نكون؟“، وهو سؤال أثار الكثير من الجدل، وسال حوله الكثير من الحبر، بل ارتفع تناوله من مستوى النقاش النظري الساخن إلى حدّ الصدام الدامي بين أقطاب النخب القومية العربية والقوميات الزنجية.
دار الإشكال حول ازدواجية ”الهويّة السياسيّة والثقافيّة“. فالهويّة تحكمها مجموعة متغيّرات، وهذه المتغيّرات في الحال الموريتانيّة لا تحسم الخيار.
فمن الناحية الجغرافية، موريتانيا دولة طرفية في الوطن العربي، وهي دولة جوار بالنسبة إلى أفريقيا. أما من ناحية التركيبة الإثنية أو العرقية، فإن هذه التركيبة تتكوّن من أغلبية عربية وأقلّية زنجية، فضلاً عن أن النخب الحاكمة في البلاد فشلت في حسم خيار الهويّة الموريتانية بقدر ما كانت هي نفسها تثير هذا الإشكال. لذا، ظلّ الصراع قائماً بين النخب العربية حول بعض القضايا المتعلّقة بالهويّة والانتماء، وعلى رأسها مسألة تعريب المناهج التربوية والوثائق الإدارية. إذ انشطر التيّار القومي إلى شطرين: التيار القومي العربي والتيار القومي الأفريقي أو الزنجي. بحيث يؤكّد التيار القومي العربي في موريتانيا على عروبة الدولة، ويدعو إلى التعريب الكامل، والقضاء على التبعيّة الثقافية لفرنسا. في حين يقف التيار الأفريقي أو الزنجي على النقيض من الموقف الأول، معتبراً موريتانيا دولة أفريقية تقع من ضمن فضاء أفريقي صرف. أمّا عن سياسة التعريب، فيرى أنها خيار اتخذته النخب العربية لإخراج موريتانيا من مجالها العام، سعياً نحو عروبة لا يدعمها ”التاريخ والجغرافيا“.
وقد تغذّى هذا الصراع على بعض العوامل الموضوعية، وأبرزها، غياب الدولة تاريخيّاً، وتحكّم الذهنيّة البدويّة، وسيطرة الولاءات العمودية والبنى السابقة على الدولة، فضلاً عن ندرة المصادر الاقتصادية؛ إذ عانى المجتمع من هشاشة اقتصادية تسبّبت في النزوح من الريف إلى المدينة، وفي خلخلة النسيج الاجتماعي، واحتكاك عناصر تختلف مشاربها وتتعدّد أنماط عيشها. ولم تفلح الدولة الموريتانية في الاهتداء إلى طريقة للتعامل مع الواقع الجديد. كما أن النظام التربوي الموريتاني لا يزال عاملاً من عوامل التفرقة، لأنه يعمل على تكوين ثقافتين وحضارتين ونظامين من القيم لشعب واحد. ولم يستطع هذا النظام أن ينفذ إلى الفئات الهشّة والضعيفة التي حالت أوضاعها الاقتصادية دون تلقّي أبنائها التعليم المناسب.
لقد تسبّبت هذه العوامل مجتمعةً في اتساع فجوة الانقسام الذي تحوّل في أحيان كثيرة إلى صراعات دامية بين الطلّاب العرب وإخوتهم الزنوج، وكانت الجامعة المسرح شبه الدائم لتلك الصدامات العرقية التي لم تكن تلقى سوى معالجات خجولة من طرف الأنظمة الحاكمة. ولئن خطا الرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد الطايع خطوات حثيثة في اتجاه حسم الإشكال لمصلحة النخب العربية، فإن هذا المسعى أثار حفيظة الضبّاط الزنوج المنخرطين في صفوف المؤسّسة العسكرية. ما أدّى إلى تزعّمهم حركات تمرّد، وإلى تدبير محاولات انقلابية مدعومة من طرف أو أطراف أفريقية وازنة، كالسنغال على سبيل المثال لا الحصر. ورأى البعض في توجّهات ولد الطايع صبّاً للزيت على النار، بحجّة أنّها أدخلت موريتانيا في أتون حرب عرقيّة، زادت من حدّة مشكلة الهويّة، وأنتجت خطاباً نخبويّاً متطرّفاً مشحوناً بالدعوات العنصرية والنعرات البغيضة. كما أدّت هذه التوجّهات إلى تعاطي الأنظمة اللاحقة مع الملف بنوع من الحذر الزائد، بحيث تعالت دعوات الانفصال، وعقدت حركة ”أفلام“ الزنجية مؤتمراً صيف العام الماضي في قلب العاصمة الموريتانية نواكشوط، ورفعت خلال المؤتمر، وبشكل علني، علم دولتها التي تطمح إلى إقامتها في الجنوب الموريتاني، على ضفّة النهر الذي يربط بين جمهوريّات موريتانيا ومالي والسنغال. وهكذا استطاعت النخب الزنجية أن تحوّل الأزمة من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، وانعكس تجذّر الأزمة في المظاهر التالية:

1- التعدّدية الإثنية
من المعلوم أن موريتانيا بلد تعدّدي تتعايش فيه إثنيات عرقية زنجية وعربية يُعبَّر عنها في القاموس الشعبي ”بالبيظان“، وهم العرب البيض، و”لكور“، وهو مصطلح يُطلَق على الزنوج بشرائحهم وفئاتهم المتعدّدة. ويتلخّص تاريخ العلاقة بين العرب والزنوج في العديد من التحالفات والنزاعات التي عرفها المجال الموريتاني عبر فترات متعدّدة، في ظلّ تناقضات يُشحذ من خلالها الوعي بالهويّة المختلفة لكلّ مجموعة. وهكذا يمكن القول بوجود أمم عدّة في موريتانيا إذا ما أخذنا كلمة أمّة في معناها الكلاسيكي، والذي يعني وحدة من البشر مستقرّة ومتشكّلة تاريخياً، ووحدة لغة وإقليم وحياة اقتصادية ووحدة في التكوين النفسي الذي يظهر في وحدة الثقافة. انطلاقاً من هذا التصنيف السوسيولوجي، فإن موريتانيا تتشكّل من أربع أمم هي:العرب، والفلان، و السوننكي، والولوف. وتحرص كلّ واحدة من هذه المجموعات على صيانة خصوصيّتها الثقافية. وفي سبيل ذلك يتولّد مستوى من الخصومات السياسية والثقافيّة بينها وبين نقيضها الثقافي والسوسيولوجي يعكس عمق الأزمة وتجذّرها.
2- الازدواجية اللغوية
يُعتبَر الإشكال اللغوي القاعدة التي تتأسّس عليها كلّ الإشكالات المتعلّقة بقضايا الهويّة والانتماء. فهو المحدِّد الأساسي للهويّة الأنطولوجية والإيديولوجية لكلّ المجتمعات. فالهويّات تتعدّد تبعاً لذلك المفهوم. فمن هوية متحجّرة ومنكمشة على ذاتها إلى هوية منفتحة على الآخر في علاقة أخذ وعطاء. وذلك هو غذاء أيّ هويّة ثقافية لا تريد الانقراض والامّحاء. ففي غالب الأحيان تضمحلّ الهويّة ما لم تتفاعل مع محيطها المتميّز عادةً بالتنوّع والاختلاف. وإدراكاً منها لهذا الطرح، ظلّت النخب الموريتانية تعترف بأن اللغة تختزل كلّ إشكاليّاتنا الأنطولوجية والإيديولوجية؛ إلّا أن كلّ تيار من تلك التيارات يحاول فرض رؤيته من دون الاعتراف برؤية الطرف الآخر وطرحه، وتضيع الهويّة الوطنية في ظلّ هذا التجاذب السيزيفي، وكأننا في منطقة عازلة لا محلّ للحلول الوسطيّة فيها. وقد ظلّت هذه المشكلة تطبع المشهد الموريتاني منذ رحيل الاستعمار الفرنسي وتسليمه البلد لقلّة قليلة من أبناء المترجمين، ليتجسّد هذا الصراع في شكل دستوري واضح المعالم.فتمّ ترسيم اللغة الفرنسية في أول دستور للبلاد في العام1961 ، ليأتي بعد ذلك دستور العام 1991، ويحسم القضية عبر ترسيم اللغة العربية. إلّا أن هذا النصّ الدستوري لا يزال يعاني من التعطيل العملي؛ إذ لا تزال اللغة الفرنسية تحتلّ الصدارة في أماكن العمل العامة وإدارات الدولة ومراسلاتها الخارجية. وهو ما يعكس بوضوح حجم التحدّيات التي تواجه مشكلة الهويّة الثقافية والسياسية في موريتانيا.
المصدر:افق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: هذا المحتوى محمي