الدكتور فيصل درّاج
قبل ما دعي، تفاؤلاً، الربيع العربي، كانت المجتمعات العربية قد دخلت في أزمة مغلقة، وإذا بالأنظمة لا تلبّي حاجات المواطنين، وإذا بالمواطنين عاجزين عن توليد سلطات بديلة. ولم تكن القضية الفلسطينية أحسن حالاً، منذ أن أصبحت المفاوضات الفلسطينية ــ الإسرائيلية رهاناً خاسراً، وعجِزَ الفلسطينون عن تقديم بديل ملائم. وكما كان للأنظمة عجزها المتصاعد، كان لمنظمة التحرير عجزٌ موازٍ، لا فرق، سواء أتصرَّفت بشؤونها وحيدة، أم أنِسَت من العرب عوناً ونصراً.
حين انتصر المشروع الصهيوني في العام 1949، قرأته النخبة العربية الصاعدة بمقولات ثلاث: التخلّف الاجتماعي الذي يشكُّ في قدرات الإنسان العربي، والتجزئة التي سوَّغت انتصار ”العصابات اليهودية“ على الجيوش العربية السبعة، والاستعمار الذي كان عنصراً فاعلاً في المشروع الصهيوني في حقبه المتوالية. كان في المقولات الثلاث ما تحدّث، لزوماً، عن التقدّم والارتقاء، وعن الوحدة العربية كضرورة أخلاقية ومنطقية لها شكل البداهة، وكان فيها وعي بالسياسات الاستعمارية التي عملت، منذ البدء، على حماية الدولة اليهودية الوليدة بالضعف العربي وضرورة ديمومته.
احتلّت فلسطين في وعي النخبة، كما في الوعي الشعبي العام، مكاناً مركزياً، تبدأ القضايا الاجتماعية منه وتعود إليه، بل مكاناً مرجعياً، تلبّي دعوته ”الجماهير“ ويعطيه الأدباء صياغات أدبية متنوّعة، ويدفع بالجيل العربي الغاضب، الذي صدمته الهزيمة، إلى اقتراحات سياسية غير مسبوقة. غدت ”النكبة النكباء“، بلغة قريبة من قسطنطين زريق، مرجعاً للتحزّب السياسي، إذ لا تحزُّب إلّا بفلسطين ومن أجل فلسطين وللإيديولوجيات القومية ”الثائرة“، بقدر ما أصبحت مبرّراً للانقلابات العسكرية، السليمة والمريضة معاً، ومعياراً يفصل بين العروبة وأعداء العروبة، على الرغم من ضبابية المنظور، وعنصراً حاسماً في التفريق بين “المرجعية” ودعاة التقدّم بنظر لا تنقصه الضبابيّة أيضاً.
شكّل سقوط فلسطين بداية مرحلة جديدة في الفكر القومي، فاتَّسع الوعي بالعروبة والهويّة العربية وتكاثرت، عفويّاً، ”الأماني القومية“، ووُلِدت أحزاب وانقلابات عسكرية، وهجس البعض بثورات شاملة. وبهذا التحوّل وفي ضوئه حلم الفلسطينيون باستعادة وطنهم السليب، وأصبح اللاجئون ”قوميين عرب“ كغيرهم، وصعد شعر المقاومة في فلسطين المحتلّة، وسمح السياق العروبي بولادة منظّمة التحرير الفلسطينية العام 1965، التي دعمتها دول عربية متعدّدة وانتسب إليها الشباب العربي بأشكال مختلفة. لم تكن ولادة المنظَّمة ممكنة من دون دعم عربي، ولم يكن الدعم ممكناً من دون السياق العربي الجديد. كان الواضح ، في الحالين، أن قضية فلسطين قضية عربية، وأن أفقها من أفق عروبتها، وأن تداعي هذه العروبة، مهما تكن درجاته وأحواله، مقدّمة لتداعي القضية الفلسطينية.
اعتنقت النخبة العربية الصاعدة، بعد هزيمة فلسطين، أفكار التقدّم الاجتماعي والوحدة العربية ومحاربة الاستعمار، وأرادت أن تبني عليها مشروعات وطنية ــ اجتماعية. بيد أن الوعي النخبوي، وبسبب نخبويَّته، لم يعرف الطريق إلى ما يطمح إليه، وبقي مشدوداً إلى عموميات إيديولوجية تعرف ما تريد، وتعرف الطرق المؤدّية إليه. كان وعياً مأخوذاً بالنهايات الكبرى: انتصار فلسطين وإنجاز الوحدة واستعادة المجد القديم، لا يلتفت إلى التفاصيل المجتمعية، ولا إلى علاقة السياسة بالثقافة، إن لم يكن لا يعترف بالسياسة على الإطلاق، فاطمأن إلى الانقلابات العسكرية و”العنف الثوري المضاد“، و”الفرد العظيم المعبّر عن روح الأمة“. كان في هذه الممارسات المتخلّفة ما أعاد إنتاج ”التخلّف السابق“ وزاده ضراوةً، وأعاد إنتاج ”تحرير فلسطين“ بمنظور متخلّف أيضاً.
استفاق الوعي العربي في العام 1948 على سقوط فلسطين. واستفاق في العام 1967 على سقوط النخبة العربية التي وعدت بتحرير فلسطين. سبَق التخلّفُ المجتمعي العربي سقوطَ فلسطين، وتمرُّد الوعي المتخلف المهزوم على شروطه، وبحَث عن اليقظة، غير أن الوعي النخبوي الفقير، الذي انتهى إلى احتكار السلطة، أعاد إنتاج التخلُّف المجتمعي بأشكال متعدّدة. وزاد الأمر فداحةً ديمومةُ الأنظمة المتسلّطة الطويلة، التي دفعت بمجتمعاتها إلى شروط معادية للحداثة والتقدّم، كما لو أن الشعب العربي الذي بدأ مشروعه الحداثي منذ بدايات القرن التاسع عشر، مُعادٍ للارتقاء والتطوّر بعد حرب 1967، التي خسر فيها العرب معركتهم الثانية ضدّ المشروع الإسرائيلي، ودخل ”العرب“ إلى مرحلة جديدة، لا تتمرّد على التخلُّف، بل تستأنسه وتوسِّع مجالاته وتطرد القيم الحداثية الديمقراطية والعقلانية والمساواة… ولعلّ هذا الواقع، المنتَج سلطوياً، هو الذي استقدم مصطلح: الاستثنائية العربية، التي تضع الشعب العربي خارج الشعوب الأخرى. كما لو كان العرب ينفرون من الديمقراطية ولا ينفرون من ثنائيّة: الفساد والاستبداد.
من العجز العربي إلى العجز الفلسطيني