الغرب وروسيا في انتخابات الجبل الأسود

ارتبطت جمهورية الجبل الأسود، صغرى جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي السابق، منذ ربع قرن بشخصية ميلو جوكانويتش الذي حافظ على سلطته القوية مرة رئيساً للجمهورية ومرة رئيساً للوزراء، وقاد هذه الجمهورية الصغيرة ذات الموقع الاستراتيجي على البحر الادرياتيكي وسط الأخطار التي عصفت بيوغسلافيا السابقة الى أن استعاد استقلالها في 2006 وأمّن لها نمواً اقتصادياً متواصلاً (أكثر من 3 في المئة) أوصلها في 2012 الى المفاوضات مع بروكسيل للانضمام الى الاتحاد الأوروبي، كما جعل حلف الأطلسي يوجّه لها في نهاية 2015 دعوة للانضمام اليه. ولكن هذا الأمر بالذات أثار الحليفة التاريخية روسيا التي رسّخت نفوذها مؤخراً في صربيا المجاورة وأنذرت الجبل الأسود لمواجهة العواقب فيما لو انضم الى الحلف. وفي هذا السياق، توترت العلاقات داخل الجمهورية ومع الصرب في الجوار بسبب حساسيات الماضي القريب، وجاءت الانتخابات البرلمانية يوم الأحد 16 تشرين الأول (اكتوبر) لتحول هذه الجمهورية الصغيرة (13,812 كم وحوالى 650 ألف نسمة معظمهم من السلاف الأرثوذكس و20 في المئة من المسلمين البشناق والألبان) الى ساحة مواجهة بين روسيا والغرب.

من الاتحاد الى الاستقلال
في القرن التاسع عشر، تصدّرت صربيا والجبل الأسود (بمساعدة روسيا القيصرية) الحركة التحررية للاستقلال عن الحكم العثماني وإقامة دولة لسلاف الجنوب (اليوغسلاف) في غرب البلقان، وهو ما تمّ أولاً في 1878 مع اعتراف الدول الأوروبية باستقلالهما في مؤتمر برلين واستمرار التنافس بينهما حتى الحرب العالمية الأولى التي قامت صربيا في نهايتها بضم «مملكة الجبل الأسود» اليها والإعلان عن تشكــــيل «مـــملكة الصرب والكروات والسلوفين» (يوغسلافيا لاحقاً).
ولكن مع تشكيل يوغسلافيا الفيديرالية في 1945 بقيادة الحزب الشيوعي اليوغسلافي، أعيد الاعتبار الى كيانية الجبل الأسود أو مونتنغرو بتحولها الى جمهورية فيديرالية، كما أن تيتو شجع النزعة المونتنغرية التي تعتبر أن المونتغريين شعب متمايز عن الصرب على الرغم من اللغة والثقافة المشتركة.
ومع وصول سلوبودان ميلوشيفيتش الى رئاسة الحزب الشيوعي الصربي وسعيه الى توحيد الصرب في يوغسلافيا(صربيا الكبرى)، عمد الى تحشيد الصرب في جمهورية الجبل الأسود الذين يشكلون ثلث السكان، للإتيان بقيادة شابة موالية له. ولكن القيادي الشاب ميلو جوكانوفيتش عرف كيف يبتعد عنه بدعم الغرب في اللحظة المناسبة لينأى بجمهورية الجبل الأسود عن حرب 1999 التي أصبحت فيها جمهورية صربيا الميلوشيفية هدفاً لضربات حلف «ناتو». وبعد سقوط ميلوشيفيتش عام 2000 واصل جوكانوفيتش سياسته الاستقلالية عن صربيا بدعم غربي الى أن أمّن لها الاستقلال عام 2006.
ومع الاستقلال، بدأت الاستثمارات تنصبّ على هذه الجمهورية ذات الموقع السياحي، سواء من الدول أو المافيات الروسية، مستفيدة من التسهيلات التي كانت تقدم للاستثمارات الأجنبية.
ومع تبني سياسة «الأوربة» أو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، نجح جوكانوفيتش في الحصول على وضعية «دولة مرشحة» والبدء في المفاوضات مع بروكسيل في 2012، مما يجعل هذه الجمهورية مرشحة لأن تحمل الرقم 29 في عضوية الاتحاد الأوروبي. ومع هذه السياسة الموالية للغرب، التي استمر بها جوكانوفيتش لمدة 25 سنة، وجّه الـ «ناتو» في أوخر 2015 دعوة الى جمهورية الجبل الأسود للانضمام الى الحلف.

إنذار روسيا
مع اندراج صربيا في «النهج الأوروبي» وبدء المفاوضات مع بروكسيل للانضمام الى الاتحاد، أخذ الوضع يتغير بعد تدخل روسيا في اوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم في 2014، حيث عمدت روسيا بوسائل متعددة الى «لجم» الاندفاع الصربي باتجاه بروكسيل وإرساء علاقات تعاون مع حلف الـ «ناتو» بواسطة المعارضة القومية المتشددة بزعامة فويسلاف شيشل التي أحرزت تقدماً واضحاً في الانتخابات الأخيرة، ولذلك رفضت بلغراد تطبيق عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا.
هذا «التقدم» الروسي بين الصرب تمدد غرباً عبر «جمهورية صرب» البوسنة ثم عبر صرب «جمهورية الجبل الأسود» حيث يشكلون ثلث السكان تقريباً، وذلك بإثارة المعارضة ضد انضمام الجمهورية الى حلف الـ «ناتو». وجاء إنذار روسيا لقيادة الجبل الأسود (جوكانوفيتش) ليشعل المعارضة ضد جوكانوفيتش وسياسته المؤيدة للغرب.
ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية في الجبل الأسود، تحوّلت الحملة الانتخابية الى ساحة ساخنة للحرب الباردة الجديدة بين روسيا والغرب. فقد تجمعت المعارضة الصربية في جبهة واحدة (الجبهة الديموقراطية) تندد بفساد جوكانوفيتش واعتماده على المافيات المختلفة للحفاظ على سلطته منذ ربع قرن وتطالب باستفتاء شعبي حول الانضمام الى حلف الـ «ناتو» لتأكدها أن أي استفتاء شعبي لن يؤمن الأكثرية المطلوبة لذلك. ومن ناحية أخرى، صعّد جوكانوفيتش هجومه على روسيا، التي تدعم معارضيه، ووضع في آخر يوم للحملة الانتخابية مواطنيه أمام خيارين: أن تكون الجمهورية جزءاً من المجتمع الأوروبي المتطور أم مستعمرة روسية؟
ووصلت المشاركة في الانتخابات الى نسبة غير مألوفة (71,98 في المئة). ومع انحباس الأنفاس، أسفرت النتائج عن فوز حزب جوكانوفيتش (الحزب الديموقراطي للاشتراكيين) بأكثر من 40 في المئة من الأصوات مما أمّن له 35 مقعداً في البرلمان (81 مقعداً) بينما تحفظت الكتل المعارضة (الجبهة الديموقراطية وائتلاف «مفتاح» والحزب الديموقراطي والحزب الاشتراكي الديموقراطي) على نتائج الانتخابات مع أنها فازت بـ39 مقعداً في البرلمان.
وبهذه النتائج، سارع جوكانوفيتش وأنصاره الى الاحتفال بالفوز على اعتبار أن ذلك يضمن لجوكانوفيتش تشكيل الحكومة والمضي في سياسته بالانضمام الى الاتحاد الأوروبي وحلف الـ «ناتو» خلال ولايته القادمة. وفق التقاليد، سيكلف جوكانوفيتش بتشكيل الحكومة باعتبار حزبه قد فاز بأعلى الأصوات، وسيتمكن بسهولة من تشكيل الحكومة بتحالفه مع أحزاب الأقليات (البشناق والألبان وغيرهم) الذين يدعمون جوكانوفيتش على الدوام بسبب سياسته الاستقلالية عن صربيا وروسيا.
اعتبرت نتيجة الانتخابات «نصراً» للغرب في المواجهة مع روسيا، حيث إن جوكانوفيتش صرّح فور الإعلان عن نتائج الانتخابات بالقول «إن الجبل الأسود ستسمر في طريقها تجاه المستقبل الأوروبي المستقر، وخلال عدة شهور سنقرّ الاتفاقية حول الانضمام الى حلف الـ «ناتو»، وسنواصل بزخم المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي التي نأمل بأن تنتهي خلال الولاية القادمة».

الجبل الأسودالغرب وروسيا انتخابات
Comments (0)
Add Comment