العقول العلميّة العربيّة بين تحدّي البقاء وقرار الهجرة

نبيل علي صالح*

تتنوّع أسباب هجرة العقول ودوافعها، فبعضها يهاجر لاستكمال الدراسة والتحصيل العلمي العالي، وبعضها الآخر ينشد العمل في مختلف حقول البحث العلمي المتعدّدة والمتنوّعة، والتي تشمل الطبّ والهندسة والفيزياء وعلوم الذرّة وغيرها.. والبعض يهاجر للبحث عن فرص عمل مغرية ومجزية، والبقاء في وسط مجتمعات وأوطان مستقرّة… وبالتالي الانتماء الدائم إلى مواطنيّتها وهويّتها الجديدة بالنسبة إليه. فما هي حيثيّات هذه الهجرات ومستقبلها؟
تعاني بلداننا العربيّة من هجرة الكثيرين من عقولها وكفاءاتها ومواهبها العلميّة إلى البلدان الغربية أو حتى إلى بعض دول آسيا الشرقية ككوريا الجنوبية واليابان، ومردّ ذلك إلى اعتقادها بوجود مَن يحترم كينونتها وطاقاتها العلمية في تلك البلدان، ومَن يوفّر لها أسباب النجاح والإنتاج والإبداع.
وتقول الإحصائيات المتوافرة أن أكثر من ثلث الكفاءات العلميّة العربية انتقل من البلدان العربيّة في قارة إفريقيا إلى أوروبا في ثمانينيّات القرن الماضي، وأن كندا والولايات المتحدة هما من أكثر الدول انفتاحاً على الآخر، واستيعاباً لتلك العقول والكفاءات العلمية العربية المهاجرة.. وقد قبلتا خلال الفترة الواقعة ما بين العامين 1960 و1990 أكثر من مليون مهاجر مهنيّ وفنّيّ من مختلف الدول النامية، ومنها دولنا وبلداننا العربية التي يوجد فيها عدد غير قليل من المخترعين والمكتشفين والعقول العلمية النيّرة التي كان من المفترض أن يتمّ استثمارها جدّياً لتسهم في نهضة بلدانها الأصلية.
وفي وقت مبكر، أي منذ العام 1981، أشارت تقديرات ”أنطوان زحلان“، وهو من أهمّ المفكّرين العرب المتابعين لموضوع ”هجرة الكفاءات العربية“ والموثّقين له منذ ستينيّات القرن الماضي، وأستاذ ورئيس سابق لقسم الفيزياء في الجامعة الأميركية في بيروت، والمدير السابق للجمعية العلمية الملكية في عمّان (الأردن)، إلى أن هجرة الأطباء والمهندسين والعلماء العرب إلى أوروبا الغربيّة والولايات المتحدة وصلت حتى العام 1976 إلى حوالى 24000 طبيب، و17000 مهندس، و75000 مشتغل في العلوم الطبيعية يمثّلون بالترتيب 50، و23 ، و15 في المائة من جملة هذه الفئات المهنيّة فى الوطن العربي.
وعند نهاية القرن العشرين، كان ”أنطوان زحلان“ قد قدّر – وصدقت تقديراته- أن حوالى مليون مهنيّ عربيّ أو أكثر يعملون في بلدان منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهو تقدير أشار إلى تصاعد هجرة الكفاءات في الربع الأخير من القرن العشرين.
وعلى صعيد ترتيب الأقطار العربيّة، يمكن اعتبار مصر وبعدها لبنان وفلسطين والأردن الأكثر تصديراً للكفاءات العلميّة، ووفق بعض المعلومات المتداولة، فإن أكثر من مليون وربع مليون عالِم عربيّ موجودون في الخارج، بينهم 800 ألف مصري.
إن تسرّب العقول المبدعة في الدول العربية واستنزافها- في زمن العلم والتقنية والبحث العلمي النوعي- هو أكبر تحدٍّ تواجهه تلك الدول التي لم تضع قدمها بعد على طريق التطوّر العلمي بصورته البنيوية الحقيقية التي تبدأ منذ مراحل الدراسة الأولى عندما يدخل التلميذ إلى مقاعد دراسته الابتدائية ليجد المدرسة والسكن المدرسي الصحّي الملائم، والمنهاج المناسب، والمعلّم الخبير، مروراً بالدراسة المتوسطة والثانوية، وصولاً إلى مراحل الدراسة الجامعية.
ولا شكّ في أن ضغوطاً داخلية كثيرة تعيشها تلك الفئات العلميّة النيّرة في بلدانها. وتتمثّل تلك الضغوط في أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية مستمرّة تعاني منها مجتمعاتها، فضلاً عن عدم توفّر قاعدة علمية بحثية صحيحة ووجود مغريات مادية خارجية. بحيث يشكّل ذلك كلّه دافعاً ومحرّضاً قويّاً لعقولنا المهاجرة للبحث عن ”ملاذات علميّة آمنة“ (إذا جاز التعبير)، والعمل خارج أوطانها. وبالفعل، فإنّ بمقدور البلدان الأجنبيّة التي تهاجر إليها أن تؤمّن لها الأجواء والمناخات المادية والشروط العلمية الملائمة لنموّ إبداعاتها الذاتية التي عجزت ظروف بلادها عن تأمين متطلّبات نجاحها وشروط تألّقها وإبداعها، نتيجة التخلّف والتبعية والانقسامات الاجتماعية – الأفقية والعمودية- والانغلاق السياسي والفكري.
وبغية فهم أسباب تلك الهجرة العلميّة، لا بدّ من العودة إلى رأي أحد الأعضاء المقرّرين لـ”تقرير التنمية الإنسانية العربية“ وهو الباحث الدكتور نادر الفرجاني، الذي يؤكّد بأن انخفاض مستوى الدخل وتدنّي مستوى المعيشة، وتفشّي حالة الإحباط العلمي والمهني والعملي العائدة إلى عدم توافر إمكانات البحث (الكتب والمجلّات العلمية، والمعدّات والأجهزة، والوقت اللازم للبحث، والبنيان المؤسّسي للبحث العلمي، والاتصال العلمي الدولي)، وغياب حرية الفكر والرأي والأسلوب العلمي لإدارة المجتمع.. هي كلّها من أسباب تلك الهجرة ودوافعها.

بين البيئة الحاضنة والشعارات

لكن يبدو أنّ أهمّ سبب أو محرّض باتجاه هجرة تلك العقول العلمية العربية إلى الخارج يتركّز أصلاً في طبيعة البنية الثقافية والاجتماعية العربية السائدة والمهيمنة تاريخياً. ومن بين أبرز الأمثلة الواقعية أو الملموسة حول دور الظروف الاجتماعية والفكرية والتاريخية المحيطة بالإنسان في توسيع مداركه وتفتّح عبقريّته وانبثاق إبداعاته، حالة العالم المصري أحمد زويل الذي حاز على جائزة نوبل في الكيمياء الحيوية منذ سنوات عدّة.. فقد عاش هذا العالم الكبير معظم حياته المهنية العلمية في جامعات الولايات المتحدة منذ عقد الستينيّات من القرن الماضي عندما كان لا يزال طالباً في مراحله الجامعية الأولى.. والمناخ السائد هناك –على عكس مناخ بيئته الأولى في صعيد مصر- هو مناخ البحث العلمي الحقيقي الذي يُترك فيه الطالب مع أستاذه المشرف عليه ليبحث ويتعلّم ويجرّب ويتقصّى ويفكّك ويركّب ويحلّل ويستنتج، فينجح تارةً ويفشل تارةً أخرى، فضلاً عن الميزانية المالية الكبيرة المتاحة أمامه للوصول إلى ما يمكن الوصول إليه من رؤى وأفكار ونظريات وقوانين وحقائق واكتشافات علمية مهمّة.. ولو أن هذا العالم بقي في بلده مصر لما تمكّن من الوصول إلى ما وصل إليه من مكتشفات واختراعات تركّزت بمجملها على مستوى علم النانو أو ”البايوتكنولوجي“.
البيئة السياسية والاجتماعية الحاضنة للثقافة العلمية والإبداع العلمي الحقيقي، والتي توفّر للمبدعين كلّ شروط النجاح والإنتاج والتقدّم والتطوّر، هي التي تشكّل إذن أكبر عامل جذب واستقطاب لبقاء العقول العلمية العربية في أوطانها، كما أنها – أي هذه الشروط- هي التي تشكّل الشرط الأساسي لتمسّكها بأرضها ولتشبّثها بهذه الأرض وليس لغة الشعارات والتمجيد الوطنية الزائفة.
ومن المعروف أن غالبية المجتمعات العربية محكومة بأنماط ثقافية وسياسية قائمة على قاعدة ”الغلبة“، أي على مناخات متوتّرة ومتناقضة ومتضاربة المصالح، ما يتسبّب باستمرار في توليد مزيد من المشكلات والأزمات والاضطرابات السياسية والاجتماعية المرهقة والمكلفة، مادياً ومعنوياً، في حاضر تلك المجتمعات، وفي مستقبل الأجيال اللاحقة.. ولاسيّما أن ثمّة عقولاً كثيرة مبدعة لا يزال عدد كبير منها يرفض الهجرة.
وحقيقةً، لا يكاد يخلو بلد عربي حالياً (وحتى في زمن سابق) من حالة اللااستقرار السياسي والاجتماعي والأمني، ومن حالة الحروب الأهلية المتنقّلة والمستمرّة، أو القائمة تحت الرماد بسبب التوتّرات والنزاعات السياسية والاستحكامات الطائفية والاستقطابات المذهبيّة الحادّة.
هذا كلّه سيدفع بمَن تبقّى من علمائنا المبدعين، للإسراع في اتخاذ قرار الرحيل والهجرة والبحث عن مواقع عمل حيوية تناسب مؤهّلاتهم وإمكاناتهم في بلدان أخرى (موجودة بلا أدنى شكّ) تفتح ذراعيها للعقل العلمي العربي المبدع.
وعليه، لا شكّ في أنّ محاولة العرب استعادة عقولهم المهاجرة مرهونة بمدى قدرتهم على الانخراط الجدّي في مشروعهم النهضوي العقلاني التقدّمي القائم على الحرية والعدالة والديمقراطية والتعدّدية السياسية.. أي أنّ هذه المحاولة هي مرهونة بإيجاد قاعدة اجتماعية وسياسية منفتحة وصلبة يمكن أن تشكّل بيئة ملائمة جاذبة لتلك العقول والكفاءات الكبيرة، بما يحدّ من استنزافها، ويمنع – ولو جزئياًّ- من هجرتها إلى الخارج.

*كاتب وباحث- سوريا

العقول العلميّة
Comments (0)
Add Comment