الانتماء العربي والإسلام السياسي/د.رضوان السيّد

العروبة السياسيةُ ضربَتْها السياساتُ الدولية، مستخدمةً في ذلك الحكّامَ العسكريّين والأمنيّين العرب خلال العقود الأربعة أو الخمسة الماضية. فلنمضِ باتجاه الجمهور، وباتجاه الانتماء العربي. وأذكُر في هذا السياق أطروحة الراحل الأستاذ منح الصلح من العام 1974: عروبة النخبة، وإسلامية الجماهير. منح الصلح كانت لديه بصيرةٌ نافذة واستشرافٌ عميق. إذ عندما قال ذلك ما كان الافتراقُ بين العروبة والإسلام قد صار فاقعاً. كان الناس ما يزالون يذكرون جماهيرية جمال عبد الناصر، وما يزالون يعيشون تجربة المقاومة الفلسطينية.
في التجربتين تختلط العروبة بالإسلام ولا يتناقضان. وقد كانت هناك جماعات إسلامية منذ الثلاثينيات، وما كانت بشوشةً مع الدولة العربية الحديثة بسبب اتهامها بالتغريب. لكنّها ما كانت تملك مذهباً سياسياً، وإنما كانت مهتمةً بالمسائل التربوية والثقافية كما هو شأْنُ حركات الهويّة. وإنما تحوَّلت تلك التجمّعات (وليس عندنا فقط، بل في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي) إلى أحزاب صلبة ذات توجُّه سياسي، ودعوة لإقامة الدولة الإسلامية على وقع فشل الدولة الوطنية العربية في مرحلتها الثانية، مرحلة العسكريين والأمنيين. فقد همَّشت الأنظمةُ العسكرية العربية والإسلامية فئاتٍ واسعةً من الجمهور، بل وناصبتْها العداء، فصارت الجماعات الدينية التي تسيَّست حزبياتٍ إحيائيةً خلال العقود الأربعة أو الخمسة الماضية. وكلما ازداد الفشل السياسي والتنموي والقمع لدى الأنظمة، ازدادت أعدادُ المنضوين في الأحزاب الدينية/ السياسية. وفي السبعينيات أيام الرئيس السادات انفجر الإسلام العنيف جماعاتٍ جهادية، وأسقط إسلاميو إيران الدولة الوطنية هناك، وانصرف الإخوان المسلمون المنظَّمون والمنتظمون إلى التغلغل ليس في الأوساط الفقيرة فقط، بل وفي أوساط الطبقات الوسطى ذات الحساسية الدينية، واندفعت تلك الموجة الداعية إلى أسلمة المجتمع والدولة، وتطبيق الشريعة. وهذا معنى ما ذكرْتُهُ عن تنافسيّات الانتماء بين العروبة والإسلام. فالعروبةُ ما عاد لها نموذجٌ إلّا الأنظمة القمعية، بينما اعتصم الإسلاميون بمثال الخلافة الراشدة. فحدث عندنا ما حدث في باكستان وإندونيسيا وإلى حدٍّ ما في تركيا. دولة فاشلة تتشدّق بالعلمانية واليسار ولا تنسى أن تذكر العروبة أحياناً، وكلّ الشبّان لديها خونةٌ أو مُغامرون، وجماعات احتجاجية، إمّا تريد الجهاد أو توهِمُ البسطاء أنّ في جعبتها نظاماً سياسياً معصوماً، أو على الأقلّ، أفضل بكثير من أنظمة الأسد وصدّام والقذافي!
وهكذا فقد حدثت تنافسيةٌ في الانتماء إلى حدود الإلغاء للعروبة. ففي استطلاعٍ للرأي في الهوية والانتماء، في 20 دولة عربية، في العام 2010 كان المسؤول يقول مَثَلاً إنه أردني أو سوداني أو جزائري ثم يضيف هويته الدينية. وما ذُكرت العروبةُ باعتبارها ثالثةً في محدِّدات الانتماء إلّا في موريتانيا واليمن وفلسطين وسورية وعدد من بلدان الخليج. وفي أربعة بلدانٍ عربية ذُكر الانتماءُ المذهبي بعد الوطني، باعتباره من محدِّدات الهوية!
لدينا اليوم إذاً أربع ظواهر بارزة:
– خراب على مستوى وحدة المجتمعات، وعلى مستوى الإحساس بالانتماء الواحد أو الأصلي والفرعي.
– وخراب على المستوى السياسي والاستراتيجي؛ فإسرائيل مرتاحة ولا تريد سلاماً مع عرب فلسطين. وإيران تملك تنظيماتٍ مسلَّحةً في أربع دولٍ عربية. وهناك دول عدّة خَرِبَة، وأُخرى تتَّجه للخراب.
– والأنظمة العسكرية والأمنية التي كسفت شمْسَها الثوراتُ، ما تزال تقتل في بلدانٍ عربية عدّة، على رأسها سورية.
– وجهاديو الإسلاميين وتنظيميّوهم ينشرون في موجتهم الثانية الموت والخراب في بلدانٍ عربيةٍ عدّة أيضاً. فخلال أقلّ من خمس سنوات، وبفضل الأسد والمالكي والبشير و”داعش“ والتنظيمات المسلّحة الأُخرى، والميليشيات الإيرانية، عندنا نصف مليون قتيل، وعشرة ملايين مهجَّر وأكثر، وعندنا أيضاً أركان الدولة مزعزعةٌ في خمسة أو ستة بلدان عربية.
ما العمل إذن أمام هذه الظواهر المفزعة؟ هناك انتماءٌ عربيٌّ كبير أبرَزَ النضالُ – قبل نكبة فلسطين وبخاصةٍ بعدها – جوانبَ سياسيةً بارزةً له. بيد أنّ الحرب الباردة والسياسات الدولية والأنظمة العسكرية والأمنية أَفشلت العروبة السياسية، وهي مبادرةُ العرب الاستراتيجية في القرن العشرين. وعندما كانت العروبة السياسية تنكسر وتسقط، كان الانتماء الإسلامي يصعد في موازاة ذاك السقوط وباتجاهين: الاتجاه الجهادي والاتجاه التنظيمي لإقامة الدولة الإسلامية بديلاً للدولة الوطنية العربية! والواقع اليوم أنه بسبب ”الخواء الاستراتيجي“ العربي، كما سمّاه الأمير سعود الفيصل في العام 2010، هناك تشرذمٌ عربيٌّ وضعفٌ واختراقاتٌ إسرائيلية وإيرانية وأميركية وروسية، وتهديداتٌ إثيوبية وتركية. وفي غياب العروبة الجامعة في الانتماء الثقافي والسياسي، صار الإسلام أيضاً جزءاً من الشرذمة والانقسام، ومبرِّراً للقتل، تارةً بحجّة إقامة الدولة الشرعية كما في حالة ”داعش“ وأشياعها، وتارةً بحجّة المقاومة، كما في حالة ”حزب الله“ وأشياعه.
أعتقد أنّ العمل ينبغي أن يبدأ على الانتماء، بمعنى استعادة الأَولوية للانتماء العربي في مجال الوحدات الوطنية الداخلية، وفي مجال العلاقات بين الدول العربية. وهذه المهمّة، أي استنهاض الانتماء هي مهمّةٌ ثقافيةٌ ودينيةٌ في الأصل. هي مهمّةٌ ثقافيةٌ، لأنّ العروبة الجامعة ثقافةٌ وقواسم مشتركةٌ في اللغة والتفكير وفقه العيش. وقد كانت عاملاً توحيدياً منذ بروز التحدّيات في أواسط القرن التاسع عشر. وما كانت هناك تفرقةٌ دينية أو طائفية أو مذهبية في داخل العروبة حتى سبعينيات القرن العشرين. والانحراف الثقافي ما أتى من الحكّام الطغاة من أنصاف الأميين فقط، بل أتى أيضاً من المثـقَّـفين العرب الكبار، فقد غادروا جميعاً تقريباً العروبة إمّا لأنّ القومية لا تكفي، بل لا بدّ من أيديولوجيات وسياسات وبرامج تحرّرية لا تتيحها غير الماركسية اللينينية – وإما لأنّ في العروبة شيئاً من الإسلام، والدولة الحديثة لا بدّ أن تكون علمانيةً بحتة. وقتَها قاوم القوميون القُدامى مثل الحصري وعفلق والبيطار وعصمت سيف الدولة هذين التوجُّهين، لكنّ الموجة كانت جارفةً وبخاصةٍ بعد وفاة جمال عبد الناصر.
إننا نتحدّث هنا عن الانتماء الجامع، والذي تتوافر عناصره وشروطه في هذه الأمّة. أما الإيديولوجيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فإنها أمرٌ آخر ولا تتعلّق بالانتماء الوطني والقومي. أوَ يكون الإيطالي اليميني من أنصار الملكية مثلاً غير منتمٍ للوطنية والقومية الإيطالية، واليساريُّ الأميركي غير منتمٍ للأمة الأميركية؟ والأمر كذلك بالنسبة إلى الانتماء الديني. فموضوع القومية هو الأوطان والدول؛ والناسُ فيها منذ قرون يعيشون معاً، ولهم طرائق في العيش، ويشعرون بالانتماء الواحد، على الرغم من تعدُّد أديانهم وطوائفهم. والعلمانية الراديكالية النافية للأديان هي فلسفةٌ للعيش عند أُمَمٍ أُخرى وليست عندنا. أما شأن الدولة وإدارة الشأن العام، فلا يمكن أن يكونَ إلّا بالطرائق الحديثة القائمة على مبدأ المواطنة وممارساتها التي تقتضي تساوياً في الحقوق والواجبات والمشاركة السياسية والاحتكام إلى القوانين الواحدة.
مهمّةٌ دينية أيضاً
ولدينا مهمةٌ دينيةٌ أيضاً، وليس مهمةً ثقافيةً فقط. المهمّة الدينية هدفُها صون الدين بالدرجة الأُولى، وليس الدولة. وصَونُ الدين في أزمنة التغيير هذه يكونُ باتجاهين: اتجاه نقد تحويل المفاهيم، بالزعم أنّ في الإسلام نظاماً سياسياً ضروريَّ التطبيق لاستعادة الشرعية في الدين والمجتمع والدولة. وهذا غير صحيحٍ على الإطلاق، وما صارت للحلّ الديني والدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة شعبية بين بعض المتديّنين، إلّا بعد الفشل الذي نال من الدولة الوطنية والقومية في بعض البلدان العربية، بلدان العسكريين والأمنيين، وبعض البلدان الإسلامية مثل إيران وتركيا وباكستان.
طوال تاريخنا ما كان هناك صراعٌ بين الدين والدولة. وما حدث الصراع إلّا بسبب تحدّيات الحداثة، وفشل الدولة العربية والإسلامية الحديثة والمعاصرة في مواجهة تلك التحدّيات، وتحدّيات التنمية والنهوض والتقدّم. لا بدّ من إخراج الدين من هذا المأزق الذي أدخله فيه الإسلاميون، جهادِيّوهم وتنظيمِيّوهم. ولا سبيل لذلك إلّا بعمليات نقد المفاهيم المستجدّة، والتي تضع الدين في مواجهة الدولة القومية والوطنية. الجهاديون لا يُكافَحون إلّا بالقوة، لأنهم اختاروها حلّاً. أمّا التنظيميون فلا بدّ من الدخول معهم في عمليات جداليّة ونقدٍ للمفاهيم التي يعتنقونها بشأن الدولة المستحيلة المسمَّاة إسلامية، والتي تظلم الدين قبل الدولة، لأنها تكلِّفه بما لا يُطاق. والفرع الآخر على هذه العملية هو التفكير في سياسات الدين، أو إدارته في أزمنة التغيير هذه. ثمّة ملفّاتٌ دينيةٌ تحتاج الدولة نفسها إلى مَنْ يديرها مثل التعليم الديني والفتوى وقيادة العبادات والإرشاد العام، والمحاكم الشرعية، والأوقاف. وقد كانت المؤسّسات الدينية تديرها، وما تزال، بإشراف الدولة. وها نحن نرى أنّ الدين انفجر بأيدي الدول والمؤسّسات الدينية. فلا يمكن تكرار التجربة التي فشلت، كما أنه ليس من مهامّ الدولة إدارة الشأن الديني، بل صون حريات العقيدة والعبادة والتعليم وحراستها، فلا بدّ من إعادة بناء المؤسّسات الدينية لكي تستطيع القيام بالمهامّ والوظائف بكفاءة فتكتسب صدقية، تُعينُنا على إخراج تلك الملفّات من أيدي الأصوليين، سواء أكانوا جهاديين أم تنظيميين. فلا أحد منّا يريد أن يتلقّى أولاده تعليمهم الديني لدى حزبيين. ولا حاجة بنا إلى الفتاوى الجهادية في الفضائيات، وفتاوى التطرُّف والمذهبية.
نحن العرب المُحاصَرين، والمذبوحين، لن نتخلَّى عن انتمائنا العربي، فهو مدخلُنا للعصر والإنسانية. ولن نخضع لأَوهام الطوائف والمذاهب والأصوليات المعادية للعروبة والإسلام. لقد أهديتُ كتابي: العرب والإيرانيون (2014) إلى ثوّار سورية المناضلين من أجل الحرية، ومن أجل شرف أمّتنا وكرامتها. إنه الشرف الباقي للوجود والمستقبل، شرفُ العربيّة والعروبة: { وإنه لذكرٌ لك ولقومك وسوف تُسألون}.
*مفكّر وباحث وأكاديمي – لبنان

الانتماء العربي
Comments (0)
Add Comment