مسعى هذه المقالة، مقاربة الإرهاب بوصفه ظاهرة ذات أصول ضاربة في تاريخ الحداثة الغربيّة. من الناحية التاريخية بدت هذه الظاهرة عند كلّ طور وحقبة على نشأة مستحدَثة. ولأجل هذا اتّخذت لنفسها صفتَيْن متلازمتَيْن: صفة الاستئناف وصفة التجدّد. وما ذاك إلّا لأنّ الأطروحة الإرهابية لم تفارق حركة الحداثة على الرغم من أنوارها المُبهرة. كذلك لم تنفكّ عن كونها حالة متاخمة لأزمنة الغرب الحديث في سياق تمدُّده الإمبريالي نحو الشرق.
تأسيساً على هذه الفرضية أمكن النظر إلى الإرهاب كظاهرة امتدادية للغرب من خلال أربع وقائع:
الواقعة الأولى: لمَّا تموضع الغرب كدولة أمّة، وراح يتمدّد خارج حدوده، ومضى يمارس إجراءات الغلبة عبر الغزو والاحتلال المباشر. وهي حالة شهدت عليها الحوادث التي رافقت التمدّد الاستعماري مع انهيار المملكة العثمانية.. كما سجَّلتها وقائع المواجهة مع الانتداب الأجنبي على أقطار المشرق العربي ومغربه، وصولاً الى يومنا الذي نحن فيه.
الواقعة الثانية: لمَّا قدَّم الغرب نفسه قيمة حضارية تنويرية، ثمّ توجّه صوب الشرق يستبيح أرضه وهويّته، ويستحلُّ عقله وروحه، ويمضي بعيداً من أجل أن يحوّله مخلوقاً مشوّهاً، أو في أحسن الأحوال، منسوخاً افتراضياً لصورته.
الواقعة الثالثة: لمّا تمكّن الغرب في مطلع القرن الحادي والعشرين، من تحويل شبه القارّة العربية الإسلامية إلى حقلٍ مستباح تُضرمُ فيه حربُ الجميع على الجميع، ويُستنبتُ فيه الإرهابُ ثقافة وفكراً وفتنة عمياء.
الواقعة الرابعة: لمّا أفلح الغرب عبر الأثير اللاَّمتناهي للإعلام الفضائي في استدخال لفظة الإرهاب إلى اللسان العربي، لتكون له جسراً للسيطرة، ثمّ لتصير – بين يديه – عقلاً باغياً يصدر أحكامه الصارمة على مَن احتجَّ على مظلمة، أو اقترف مقاومة لاحتلال.
الوقائع الأربع، وإن تعدَّدت ركائبها، يجمعها منطق واحد. لكنّها ستؤول على الجملة الى النتيجة نفسها: إرهاب متعدّد المسالك ظهرت صوره على امتداد عقود من الاحتدام بين المشرق العربي الإسلامي والغرب.
ولنا في ما يلي أن نعرض إلى أبرز هذه الصور:
الصورة الأولى: إرهاب التجزئة: وقد ظهر في مطلع القرن العشرين، حين عَكَف الغرب إثر سقوط الإمبراطورية العثمانية على تقسيم الجغرافيا العربية المترامية الأطراف، إلى كيانات متناثرة. كانت اتفاقية سايكس بيكو أوّل حصيلة مدويّة للحرب الأولى على أرض الشرق. وعليها سيجري التأسيس لمسار الغلبة على شعوب المنطقة، واستباحة قيمها وسياداتها الوطنية وثرواتها الطبيعية.
الصورة الثانية: إرهاب الصَهْيَنة: وبيانه إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين كعنوان مركزي من عناوين الاستيطان القهري الذي أجرته الحداثة الغربية في منتصف القرن العشرين المنصرم.
الصورة الثالثة: إرهاب العسكرة: وهو ما تُرجمَ تاريخياً بشبكة نظمٍ وسيطراتٍ سياسية وأمنية وعسكرية، مهمّتها ضبط حركة شعوبها، سواء لجهة تحرير أرضها من الاحتلال، أم لجهة تحرُّرها من التبعيات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
الصورة الرابعة: إرهاب المعرفة: وهو إرهابٌ مركّب من نحوين اثنين:
نحوٌ فكري، وله صلة بعالم المفاهيم والمصطلحات والمناهج، حيث اشتغل العقل الغربي على دفع منظومته المفاهيمية، في اتّجاه الأفق المشرقي لتتحوّل من هناك، ومن ضمن ديالكتيك “الاستشراق والاستغراب” إلى شبكة معيارية صارمة تُقاس عليها طرق التفكير وطروح الأسئلة واستنتاج الأجوبة. وهي شبكة شديدة الصرامة ولا تقبل المساءلة أو المراجعة أو النقض.
ونحوٌ روحي، أخذ يعرب عن نفسه بضربٍ من فزع معنوي مصدره اندهاش بحداثة عارمة حلّ على نخب الأمّة في لحظة فراغ تاريخي. ما أخلَّ بنظام تفكيرها، وحال دون معرفتها لذاتها أو التعرّف إلى الغير. وغالباً ما يؤدّي الفزع الروحي إلى ذهاب العقل، فلا يعود صاحبه بقادرٍ على صناعة السؤال المناسب، ولا على استنتاج الجواب الصائب. وذلك يعني أنّ علّة الاندهاش تقود الى الذهول عن النفس، والانصياع الى المدهوش منه، وبالتالي الفزع منه، ثمّ الرجوع اللاإرادي إلى حياضه.
الصورة الخامسة: إرهاب الاحتلال المستأنف: وقد جاءنا على صهوة الجوع الضاري لإمبريالية ما بعد الحداثة، ليتّخذ من عناوين الديمقراطية والحرّية والحرب العادلة، وتالياً الحرب على الإرهاب، حجّة له وجسر عبور للغزو والاحتلال.
الصورة السادسة:إرهاب المشاهدة: وبيانه مكرٌ فائقٌ الذكاء، وانسحار بسطوة الصورة والصوت. إرهاب المشاهدة يجيئنا عن طريق “الميديا” بميادينها المختلفة. يبدّل المزاج العام، ويتلاعب بالعقول ويستثير الغرائز. وغايته إجراء تحويلات عميقة في القناعات، والاعتقادات والأفكار. وأمّا حصائده المباشرة، فإنّه يلقي الجمهور في لجّة الغفلة وانعدام الوزن. يسلب منه إرادة التعقّل، ويدفع به الى التسليم بما يستقبله من معلومات ورسائل. وإرهاب المشاهدة إرهاب ليِّن يعدّه علماء النفس والاجتماع أخطر أنواع الإرهاب، بحيث يكون المُهيمَن عليه غافلاً عمّا يأتيه، راضياً بما هو فيه.
الصورة السابعة: إرهاب التفتيت: وهو جارٍ في أيامنا عبر تفكيك الوحدات الوطنية، وتفجير الحروب الأهلية، وإيقاظ الهويّات المتناحرة. ومسار هذا الصنف من الإرهاب، لا يتوقّف على تفكيك الجغرافيا فحسب، وإنّما أيضاً وأساساً على تحطيم كلّ ما هو معافى في الأمّة، وتبديد ما بقي فيها من ثوابت وعناوين أصيلة.
لو كان لنا من تأصيل في ما نذهب إليه لأيَّدناه بشاهدين:
الشاهد الأوّل: يقوم على بيِّنات تاريخية مؤداها الإجمالي، أنّ الغرب – بمؤسّساته اللاهوتية والإيديولوجية والسياسية، وحتّى الفلسفية – دخل في اختصام تاريخي عميق مع الإسلام. وسيكون له ذلك عبر منظومة شاملة من الأحكام الإيديولوجية المثقَلة بالمتساقطات الفكرية والثقافية والمجتمعية. ولقد ابتنى هذه المنظومة حشدٌ من رجال اللاهوت وعلماء الاجتماع والدبلوماسيّين والجنرالات في إطار حركة استشراق محموم استهلّت رحلتها في اجتياح بلاد العرب والمسلمين من قبل سقوط الأندلس (1492) بزمن، ومن بعد تلك الكارثة بزمن متمادٍ.
الشاهد الثاني: ومؤدّاه أنّ للاستشراق المتدفّق على مجتمعات الشرق، قابلاً من الشرق نفسه. وبيان هذا أنّ المستشرق الغربي وَجَدَ من أبناء الشرق مَن يتماهى معه، ويشاطره خطبته ومنطقه ومعارفه المستحدثة. تلك المشاطرة وذاك التماهي، طفقا يجريان في أزمنتنا المعاصرة ضمن ديالكتيك شديد التعقيد: تارة بالإقناع والرضا والإغواء، وطوراً بالقوّة والقهر والاحتلال والحروب الأهلية. وهذا ما رأينا ان نسمّيه “الاستغراب السلبي”. وهذا النوع من “الاستغراب”، هو نتاج تفاعل مركّب لاندهاش العربي المسلم بحداثة الغرب سواء من خلال الأخذ بها بلا تحفُّظ، أم عبر انهمامه إلى مواجهتها مواجهة المنفعل. فبنتيجة هذا التركيب، بدا “المستغرِب المشرقي” أدنى الى نظير سلبي للمستشرق الغربي، وكامتداد له في الوقت عينه. فكان “الاستغراب” بهذه المنزلة، أشبه باستيطان معرفي لم يعد معه المستغربون بقادرين على شيء، سوى الانفعال بأسئلة الغرب والعمل بها عن ظهر قلب.
كيف تبدو الصورة اليوم وقد بلغت الأطروحة الإرهابية ذروة مقاصدها؟
في مقام الجواب عن السؤال، نودّ الإلفات إلى أنّنا لسنا في وارد إصدار حكم أخلاقي حيال النتائج المترتّبة عن فعل الإرهاب، وبالتالي على صانعيه. إنّ ما نحن بصدده هو بيان أنّ الأطروحة الإرهابية لن تُفهم أو يُحسم أمرها بموقف إدانة. فالإدانة الموجَّهة نحو الإرهاب هي موقف أخلاقي يدرجه العقلاء ضمن بديهيات الفطرة البشرية.على حين يتأتّى أصل المشكلة بتقديرنا من أمرَين ينبغي التعامل معهما كما هما في الواقع والتجربة:
الأول، واقع أنّ مقولة الإرهاب هي مقولة صنَّعها العقل الغربي، ومهَّد لها أرض المشرق العربي ومغربه بالقول والفعل..
والثاني، واقع أنّ الحرب المدَّعاة على الإرهاب في الحقبة الراهنة، هي حرب يخوضها الغرب بواسطة منتج صنَّعه بإتقان، ثمّ ليجد له سبيلاً إلى استباحة هذه البلاد، وتحويلها إلى مستوطنات بشرية يستحكمها الخوف والتعصّب والقلق والفرقة والعنف الأعمى.
نحن نقيم الآن في عصر الكيانات المفتوحة على الاستباحة. بل لنقل أيضاً إننا في طور متجدّد من الغزو المركّب، حيث تتضافر رغبات الخارج مع قابليات الداخل واستعداداته، ثمّ ليعود الغرب ليستأنف أفعاله في بلاد لم تعد بالنسبة إليه سوى حقول اختبار لأفكار وأسلحة وحروب من كلّ صنف ولون.
مثل هذا التضافر الذي ألمحنا إليه، هو عين ما يرمي إليه ” دين الغرب المستحدَث”. أي.. إلى حيث ينصرف الوعي السياسي في البلاد العربية والإسلامية عمّا هو حقيقي وواقعي إلى ما هو متخيِّل وموهوم. بمعنى محدَّد وبيِّن: ألّا يغيب عن إدراك “النخب العربية والإسلامية”، أنّ الغرب لن يفلح في ممارسة ثقافة التفكيك ما لم يكن من أهل البلاد ومقرِّري ثقافاتها مَن يشاطره الوظيفة والدور.
هذا التوصيف ليس رأياً ينتظر الوقت ليُحكم عليه بالخطأ والصواب. ذلك أنّ ما جرى ويجري في ساحات العرب وميادينهم سحابة الأعوام القليلة المنقضية يجعل من صُوَر التشظّي والانتحار الذاتي أمراً مرئياًّ رأي العين، وواقعاً لا تشوب كارثيتَه شائبة.
الغريب في الصورة، أنّ المعادلة باتت مقلوبة ومضطربة، إلى درجة أنّ الشارع بغرائزه الفالتة هو الذي يقود النخب ويوجّهها. حتّى أنّنا لو قرأنا خلاصات الحال لوجدنا كيف أنّ النخب – وقد استدرجتها الغرائز العمياء إلى كهوفها المعتمة – تنبري لتضفي العقلنة على جنون الشوارع والساحات، ثمّ لتنساب معها من دون أن يهتزّ لها عقل وضمير.
باحث في الفلسفة السياسيّة – لبنان