عبقري عربي مسلم فى مجال الفيزياء وعلم الميكانيكا، ورائد من رواد الهندسة الميكانيكية فى الحضارة العربية الإسلامية، له فضل اكتشاف قانون الحركة الثانى والثالث، كما يُعَدُّ مكتشف قانون الجاذبية، وذلك فضلاً عن تمكُّنه من الطب؛ فما زالت أبحاثه الطبية فى مجال علم النفس تثير إعجاب العلماء إلى زمننا هذا.
مولده ونشأته
هو أبو البركات هبة الله بن ملكا، البلدى، المعروف بأوحد الزمان، وكان طبيبًا وفيلسوفًا وحكيم زمانه، وُلِدَ هبة الله بن ملكا ببغداد سنة (480ه-1087م)، بيد أنه نشأ فى بيت يهودى متعصب، فكانت نشأته دينية فى المقام الأول، فنشأ متعصبًا لديانته وأتباع ملته، وكان لتمكنه فى الطب- وخاصة الطب النفسي- الفضل فى قربه من الخلفاء والأمراء، ويبدو أن ابن ملكا لم يكن مغلق الفكر وسطحى التفكير، بل كان منفتح الفكر ويقبل الرأى والرأى الآخر، ويتأثر بمحاسن الأخلاق، ويمتلك إحساسًا مرهفًا رفيعًا، ويبدو أن ذلك كان سببًا فى إسلامه، فقد ذكر ابن أبى أصيبعة فى سبب إسلامه “أنه دخل إلى الخليفة، فقام له الكل سوى القاضى، فقال: يا أمير المؤمنين! إن كان القاضى لم يقم لأنى على غير ملته، فأنا أُسْلِم، فأسلم”.
ويبدو أنه بعد أن أعلن إسلامه تسمَّى بهبة الله وعلا كعبه- رجل عالى الكَعْب أى: يُوصَفُ بالشَّرف والظَّفَر- وشأنه بين العلماء والأمراء، فلم يعد يفضلونه بشىء، وكان هبة الله متزوجًا قبل إسلامه، وله ثلاث بنات، ولم ينجب ولدًا، ولم يَسْلم ابن ملكا البغدادى بعد إسلامه من عائلته وأبناء ملته اليهود، فقد ابتُلِى بأن تركته بناته بل أهله جميعًا فعاش وحيدًا، وكم هو عزيز هذا على النفس! ولكن الله عوضه بحب العلم وسعة الاطلاع، فكان أوحد عصره فى علمه، ومن علماء المسلمين المعتبرين فى الفيزياء والطب.. وكان ابن ملكا مقربًا من الخليفة العباسى المستنجد بالله، واتهمه السلطان محمد بن ملكشاه بأنه أساء علاجه فحبسه مدة، وكان يقضى جُلَّ وقته فى القراءة ومطالعة المخطوطات، وخاصة فى الطب والفيزياء والميكانيكا.
ثناء العلماء عليه
قال عنه الصفدى: “أوحد الزمان الطبيب هبة الله بن على بن ملكا”.
وقال عنه ابن أبى أصيبعة: “أوحد الزمان أبو البركات هبة الله بن على ملكا البلدي؛ لأن مولده ببلد، ثم أقام ببغداد، كان يهوديًّا وأسلم بعد ذلك… تصانيفه فى نهاية الجودة، وكان له اهتمام بالغ فى العلوم وفطرة فائقة فيها، وكان مبدأ تَعَلُّمه صناعة الطب”.
ابن ملكا والطب
تلقَّى ابن ملكا تعليمه الأول ببغداد على يد الشيخ أبى الحسن سعيد بن هبة الله بن الحسين، وكان علامة فى الطب، واجه ابن ملكا صعوبات فى طلبه للطب ليهوديته، إلا أنه استطاع بذكائه أن يجبر الشيخ على أن يتبناه، ويجعله من ندمائه ومريديه، خاصة بعد أن ظهر نبوغ التلميذ فى حلِّ المسائل المعضلة، والتى عجز عن حلها من كان مواظبًا مع الشيخ فى حضور محاضراته، ومع الوقت أصبح لابن ملكا شأن بين الأطباء فى بغداد، فأصبح من المقربين للخلفاء العباسيين والأمراء، وفى ذلك دليل على عظمة الحضارة الإسلامية، التى قدمت الكثير والكثير للإنسانية كلها، وعرفت قيمة العلم، ولم تكن إنجازاتها مقصورة فقط على أبناء ديانة معيَّنة أو جنس بعينه، بل شملت كل من عاش فى كنفها مسلمًا كان أو غير مسلم، عربيًّا كان أو غير عربى؛ ممَّا يؤكد أنها حضارة إنسانية جامعة.
إسهاماته فى الطب
نبغ ابن ملكا نبوغًا فائقًا فى الطب وخاصة فى الطب النفسى، فعالج بعض الأمراض النفسية المعضلة، والتى جعلت منه فخرًا للإسلام الذى نبغ فى ظله، وأصبح مفخرة للأطباء المسلمين؛ أدهشت طريقة علاجه لهذه الأمراض النفسية علماء النفس منذ عصره وإلى يومنا هذا، حتى اعتبر ابنُ أبى أصيبعة- وهو مؤرخ زمانه للأطباء وطبيب عصره- أن ما فعله ابن ملكا من نوادر الزمن.
ويسرد لنا ابن أبى أصيبعة حادثة تدلُّ على ذكاء ابن ملكا وطرق علاجه للأمراض النفسية فى عصره، يقول: “ومن نوادر أوحد الزمان فى المداواة أن مريضًا ببغداد كان قد عرض له علة الماليخوليا، وكان يعتقد أن على رأسه دنًّا (وعاء كبير) وأنه لا يفارقه أبدًا، فكان كلما مشى يتحايد المواضع التى سقوفها قصيرة ويمشى برفق، ولا يترك أحدًا يدنو منه، حتى لا يميل الدنُّ أو يقع عن رأسه، وبقى بهذا المرض مدة وهو فى شدَّة منه، وعالجه جماعة من الأطباء ولم يحصل بمعالجتهم تأثير ينتفع به، وانتهى أمره إلى أوحد الزمان، ففكر أنه ما بقى شىء يمكن أن يبرأ به إلا بالأمور الوهمية، فقال لأهله: إذا كنتُ فى الدار فأتونى به. ثم أمر أوحد الزمان أحد غلمانه بأن ذلك المريض إذا دخل إليه وشرع فى الكلام معه، وأشار إلى الغلام بعلامة بينهما، أن يسارع بخشبة كبيرة فيضرب بها فوق رأس المريض على بعد منه، كأنه يريد كسر الدن الذى يزعم أنه على رأسه، وأوصى غلامًا آخر، وكان قد أعد معه دنًّا فى أعلى السطح، أنه متى رأى ذلك الغلام قد ضرب فوق رأس صاحب الماليخوليا أن يرمى الدنَّ الذى عنده بسرعة إلى الأرض، ولما كان أوحد الزمان فى داره، وأتاه المريض شرع فى الكلام معه وحادثه، وأنكر عليه حمله الدنَّ، وأشار إلى الغلام الذى عنده من غير علم المريض فأقبل إليه، وقال: والله! لا بُدَّ لى أن أكسر هذا الدن وأريحك منه. ثم أدار تلك الخشبة التى معه وضرب بها فوق رأسه بنحو ذراع، وعند ذلك رمى الغلام الآخر الدن من أعلى السطح، فكانت له جلبة عظيمة، وتكسر قطعًا كثيرة، فلما عاين المريض ما فعل به، ورأى الدن المنكسر، تأوه لكسرهم إياه، ولم يشك أنه الذى كان على رأسه بزعمه، وأثر فيه الوهم أثرًا برئ من علته تلك؛ وهذا باب عظيم فى المداواة”.
وهذه الطريقة التى استخدمها هبة الله بن ملكا تنمُّ عن سعة أفقه وكثير اطلاعه ومعرفته بأحوال النفوس وطرق علاجها، وتمرُّسه فى مهنته، وفطنته فى تشخيص المرض وسبيل علاجه، وهذا بلا شك تكرمة للحضارة التى نبغ فيها، كما اشتهر أبو البركات هبة الله بن ملكا بجرأته فى مداواة المرضى، فكان- رحمه الله- لا يتردَّد فى اتخاذ القرارات فى إجراء العمليات الجراحية الخطيرة، كما أنه كان ينصح طلابه بضرورة الاقتناع بجدوى إجراء العملية الجراحية حتى يستطيعوا إقناع المريض بعد ذلك، ولا يحدث له نوع من الخوف من إجرائها.
ابن ملكا والميكانيكا
لقد كان هبة الله بن ملكا من عباقرة الإسلام حقًّا فى مجال الفيزياء وعلم الميكانيكا؛ وذلك من خلال إبداعاته فيما يتعلق بقوانين الحركة والجاذبية، والتى نُسِبت زورًا وكذبًا للغربيين، وأشهرهم إسحاق نيوتن.
ابن ملكا البغدادى وقوانين الحركة
المشهور عند عموم الناس فى الشرق والغرب أن مكتشف هذه القوانين هو العالم الإنجليزى إسحاق نيوتن(1052-1139ه=1642-1727م )؛ وذلك منذ أن نشرها فى كتابه المسمى (الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية). وقد ظلت هذه هى المعلومة المعروفة فى العالم كله، بل وفى جميع المراجع العلمية- ومنها بالطبع مدارس المسلمين- حتى مطلع القرن العشرين؛ وذلك حين تصدى للبحث جماعة من علماء الطبيعة المسلمين المعاصرين، وكان فى مقدمتهم الدكتور مصطفى نظيف أستاذ الفيزياء، والدكتور جلال شوقى أستاذ الهندسة الميكانيكية، والدكتور على عبد الله الدفاع أستاذ الرياضيات.. فقد عكفوا على دراسة ما جاء فى المخطوطات الإسلامية فى هذا المجال، فاكتشفوا أن الفضل الحقيقى فى اكتشاف هذه القوانين إنما يرجع إلى علماء المسلمين، وفى مقدمتهم العالم المسلم هبة الله بن ملكا البغدادى.
القانون الثانى للحركة
وهذا القانون يربط بين مجموع القوى المؤثرة على الجسم وعلى زيادة سرعته، وهو ما يُعرف بالعجلة، وتكون العجلة متناسبة مع حجم القوة وفى نفس اتجاهها، ويعتبر ثابت هذا التناسب بمثابة كتلة الجسم (ك)، وقد جاء ذلك فى قالب نيوتن الرياضى؛ حيث قال: “إن القوة اللازمة للحركة تتناسب تناسبًا طرديًّا مع كلٍّ من كتلة الجسم وتسارعه، وبالتالى فإنها تُقاس كحاصل ضرب الكتلة × التسارع، بحيث يكون التسارع فى نفس اتجاه القوة وعلى خط ميلها”. وإذا جئنا إلى علماء المسلمين، فلك أن تتأمل- مثلاً- قول هبة الله بن ملكا البغدادى فى كتابه (المعتبر فى الحكمة) حيث يقول: “وكل حركة ففى زمان لا محالة، فالقوة الأشدُّ تُحرِّك أسرع وفى زمن أقصر.. فكلما اشتدت القوة ازدادت السرعة فقصر الزمان، فإذا لم تتناهَ الشدة لم تتناهَ السرعة، وفى ذلك تصير الحركة فى غير زمان أشد؛ لأن سلب الزمان فى السرعة نهاية ما للشدة”. وفى الفصل الرابع عشر الذى بعنوان (الخلاء ) قال بلفظه: “تزداد السرعة عند اشتداد القوة فكلما زادت قوة الدفع زادت سرعة الجسم المتحرك وقصر الزمن لقطع المسافة المحددة”. وهو بالضبط ما نسقه نيوتن فى قالبه الرياضى، وأسماه القانون الثانى للحركة!
القانون الثالث للحركة
وهو يعنى أنه إذا تفاعل جسيمان، فإن القوة التى يؤثر بها الجسيم الأول فى الجسيم الثانى “تسمى قوة الفعل” وهى تساوى بالقيمة المطلقة وتعاكس بالاتجاه، والقوة التى يؤثر بها الجسيم الثانى فى الأول” تسمى قوة رد الفعل”. وقد صاغ نيوتن ذلك القانون فى قالبه الرياضى فقال: “لكل فعل رد فعل، مساوٍ له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه”. وقبله بقرون، وفى كتابه (المعتبر فى الحكمة) أورد أبو البركات هبة الله بن ملكا ما نصه: “إن الحلقة المتجاذبة بين المصارعين لكل واحد من المتجاذبين فى جذبها قوة مقاومة لقوة الآخر، وليس إذا غلب أحدهما فَجَذَبَهَا نحوه يكون قد خلت من قوة جذب الآخر، بل تلك القوة موجودة مقهورة، ولولاها لما احتاج الآخر إلى كل ذلك الجذب”. وهو نفس المعنى الذى عبَّر عنه ابن الهيثم فى المناظر، وجدير بالذكر ونحن نتحدث عن قوانين الحركة ودور العلماء المسلمين فى اكتشافها، أن نُبَيِّن أن الشيخ الرئيس ابن سينا هو مكتشف القانون الأول للحركة، وجدير بالذكر- أيضًا- أن نيوتن انتحله لنفسه.
قوانين الجاذبية “قانون التساقط الحرّ للأجسام”
تكمن أهمية “قانون الجاذبية” فى أنه يفسر ارتباط الأجرام السماوية وحفظ تماسكها وانتظامها فى مداراتها، وباكتشافه استطاع العلماء تفسير سقوط الأجسام نحو الأرض، وفهم المزيد عن حركة الكواكب حول الشمس فى مدارات دائرية تقريبًا؛ وذلك بفرض أن التجاذب بين الشمس وكواكبها هو السبب فى تلك الحركة الدورانية.
ولهبة الله بن ملكا البغدادى الدور الكبير فى تصحيح الخطأ الجسيم الذى وقع فيه أرسطو، عندما قال بسقوط الأجسام الثقيلة أسرع من الأجسام الخفيفة، وسبق جاليليو فى إثبات الحقيقة العلمية المهمة التى تقضى بأن سرعة الجسم الساقط سقوطًا حرًّا تحت تأثير الجاذبية الأرضية لا تتوقف إطلاقًا على كتلته، وذلك عندما تخلو الحركة من أى معوقات خارجية، ويعبر عن هذه الحقيقة بكلماته فى كتابه (المعتبر فى الحكمة) فيقول: “وأيضًا لو تحركت الأجسام فى الخلاء لتساوت حركة الثقيل والخفيف، والكبير والصغير، والمخروط المتحرك على رأسه الحاد والمخروط المتحرك على قاعدته الواسعة، فى السرعة والبطء؛ لأنها إنما تختلف فى الملاء بهذه الأشياء بسهولة خرقها لما تخرقه من المقاوم المخروق كالماء والهواء، وغيرهما”.
مؤلفاته
لهبة الله بن ملكا العديد من المؤلفات فى مجال الطب والميكانيكا والفيزياء والفلسفة والمنطق، ولعلَّ أشهرها كتاب (المعتبر فى الحكمة)، وله- أيضًا- كتاب اختصار التشريح من كلام جالينوس، ومقالة فى سبب ظهور الكواكب ليلاً واختفائها نهارًا، والأقراباذين، ورسالة فى صفة (برشعتا) وهو دواء هندى، ورسالة فى صفة دواء ترياقى يقال: أمين الأرواح. ورسالة فى العقل وماهيته.
وفاته
حقًّا إن الحضارة الإسلامية لتفخر بأنها ضمت علماء أفذاذًا قدموا للبشرية ما لم يقدمه لها غيرهم، ولهبة الله بن ملكا عظيم التقدير لما قَدَّمه من إبداعات جليلة، وإن سرقها بعضهم ونسبها لنفسه ظلمًا وكذبًا، وآن للعالَم أن ينسب الفضل لأهله، وأن يعلم المسلمون أن لهم الباع والفضل على الحضارة الإنسانية كلها، وبعد هذه الرحلة التى قضاها ابن ملكا البغدادى- وقد جاوز نحو الثمانين- يلقى ربه بهمدان وقد حُمِلَ تابوته إلى بغداد فى عام (560ه -1165م).
بقلم الأستاذ الدكتور: راغب السرجانى