في مرحلة تاريخيّة متقدّمة، صنع العرب القوارب من الجلود أو جذوع الأشجار المجوَّفة أو غير ذلك من موادٍ مُلائِمة، وأخذوا يجوبون المياه الهادئة بالمجداف القصير، ويصيدون السمك ويغوصون طلباً للّؤلؤ. ثمّ أخذت الملاحة تتطوّر حين أقدم العرب على التوغّل في البحر، فأقاموا الصّاري والشراع ووكّلوا أمرهم إلى الرياح في البحر العريض. حدث هذا على شواطئ البلدان العربية منذ أقدم العصور، والراجح أنّ ألواح هياكل السفن لم تكن تُثبَّت بالمسامير، بل تُشَدّ بحبالٍ من ليف.
في العصر الإسلامي، احتلّ العرب سواحل الخليج العربي كلّها، ووحّدوا في إمبراطوريّتهم بين بلاد غربي آسيا ومصر. وكان خلفاء الإسكندر قد شطروا هذه المنطقة الاقتصادية شطرَيْن، ولم يعد الخليج العربي والبحر الأحمر طريقَيْن متنافسَيْن لبلوغ روما أو القسطنطينيّة، وإنّما كانا طريقَيْن متساويَيْن، يُسلَك كلٌّ منهما لبلوغ ما قاربه من أرض الخلافة. وقد استُخدما جنباً إلى جنب طوال احتفاظ الإمبراطورية الإسلامية بوحدتها. وراجت التجارة بين الخليج العربي والهند والصين في عهد العبّاسيّين.
وأظهر العرب طوال قرون عدّة نشاطاً غير مألوف في مختلف ميادين الحياة، وتناول هذا النشاط الحروب والرّحلات والتجارة.
كان المحيط الهندي، على عكس البحر المتوسّط، بحراً آمناً وسالماً؛ فقد كانت سواحله تحت سيطرة المسلمين، ولهذا اتّسعت التجارة في هذا المحيط في العصر الإسلامي اتّساعاً عظيماً. وكان الطريق البحري الممتدّ من الخليج العربي إلى كانتون أطول طريق استخدمه الإنسان على نحوٍ منتظمٍ قبل التوسّع الأوروبي في القرن السادس عشر. فسلوكه عمل جليل جدير بالعناية والاهتمام .
وقد شجّع الخلفاء العباسيون امتزاج رعاياهم العرب بالفرس في وحدة إسلامية لسانها العربية. ولهذا نرى في القرن التاسع الميلادي أنّ الوثائق العربية الخاصّة بالتجارة البحرية مع الشرق الأقصى تَذكُر المسلمين والعرب أكثر ممّا تَذكُر الفرس.
وكانت صلة العرب بالبلاد الشرقية قبل الإسلام عن طريق قبيلة طيّ. ولهذا سُمّي السريان العرب باسم الطّائيّين “طييا”، وكذلك أطلق الصينيّون على العرب تسمية “تا – شي”، وهي من الفارسية “تا – زك”، أي طائي.
ومنذ منتصف القرن التاسع الميلادي، كانت هناك ملاحة مباشرة إلى الهند والصين، وأخذ الجغرافيّون العرب وأصحاب الرحلات يدوّنون ملاحظاتهم في كتبٍ وصل إلينا بعضها، وتحتوي على معلومات قيّمة عن موانئ المحيط الهندي وسواحله.
يصف لنا ابن خرداذبة في كتابه “المسالك والممالك” الذي وضعه حوالي العام 850 م مراحل الطريق من الخليج العربي إلى الهند. وفي العام 851 م ألّف كاتبٌ مجهول أخباراً رواها التجّار عن الطريق البحري من سيراف إلى كانتون، وعن عادات أهل الصين والهند. ويُعرف هذا الكتاب تحت عنوان “أخبار الصين والهند” ويُنسَب إلى تاجر يُدعى سليمان ورد ذكره في الكتاب. وحوالي سنة 916 م، علَّق رجل من سيراف هو ابو زيد الحسن بن اليزيد على الكتاب وأضاف إليه معلومات استقاها من أحاديثه مع التجّار ورجال البحر في سيراف.
وكتب المسعودي حوالي العام 947 م كتابه “مروج الذهب ومعادن الجواهر” الذي يزهى صاحبه زهواً واضحاً بما يوليه من اهتمامٍ بالبحر والملّاحين ولغتهم. وهو يمدّنا بكثيرٍ من المعلومات الجغرافية وغيرها التي اعتمد في بعضها على مصادر متقدّمة اندثر بعضها، وفي بعضها الآخر اعتمد على ما خبره بنفسه. فقد زار الهند وشرقي أفريقيا. وله كتاب “التنبيه والإشراف” الذي ألّفه سنة 955 م وقد تعرّض فيه أحياناً إلى أخبار الهند. وكتب المقدسي كتابه عام 986 م وفيه يقصّ ما شاهده أثناء طوافه بسواحل الجزيرة العربية.
وغير هؤلاء، ثمّة اليعقوبي الذي كتب في سنة 892 م كتاب “البلدان”، فضلاً عن ابن الفقيه الذي كتب سنة 902 م “مختصر كتاب البلدان”، وابن رسته وكتابه “الأعلاق النفسية” حوالي 903 م، وكتاب “مسالك الممالك” للأصطخري حوالي سنة 950 م، و كتاب “صورة الأرض” لابن حوقل حوالي سنة 954 م… وهذه الكتب جميعاً على نمطٍ واحدٍ بحيث يُنقَل كتابٌ عن كتاب.
وهناك كتاب آخر له أهمّية فريدة هو “كتاب عجائب الهند” كُتب أكثره بعد منتصف القرن العاشر بقليل وزيد عليه في عصر متأخّر. وهو يُنسَب إلى “بزرك بن شهريار” من مدينة رام هرمز. كان المؤلّف ربّاناً من ربابنة البحر، وقد جمع القصص من أفواه غيره من الربابِنة والتّجار، في سيراف والبصرة وعُمان، قصصاً عن الهند والشرق الأقصى وشرق أفريقية وفي ثنايا القصص الطويلة تبدو التفصيلات العادية متّسمة بالصدق. وحفظ لنا المروزي في كتاب يرجع إلى حوالي سنة 1120 م بعض التفصيلات المهمّة عن العصور المتقدّمة.
ويمكننا استناداً إلى أوصاف ابن خرداذبه وكاتب أخبار الصين والهند وآخرين متأخّرين عنهم بعض الشيء أن نكوِّن صورة عن الطريق الذي كان يسلكه القاصدون إلى الهند والصين في منتصف القرن التاسع الميلادي.
فالبصرة والأبلة وسيراف كانت مُنتهى مطاف السفن القادمة من الصين والهند. وكانت البصرة مركزاً تجارياً كبيراً، ولم تكن السفن الكبيرة تستطيع بلوغها، فكانت ترسو في الأبلة، وكانت فيها أحواضٌ للسفن، وكثيراً ما تحطّمت عليها السفن. بحيث أسهمت هذه المصاعب في نموّ سيراف على ساحل إيران جنوب شيزار.
كانت سيراف على شاطئ حارّ مجدب، شأنها شأن عدن، وكانت تعيش على ما يرد إليها من مؤن عبر البحر، وكان الفضل في وجودها لتجارتها البحرية. وقد بلغت هذه التجارة من الازدهار مبلغاً جعل من سيراف منافساً للبصرة في الغنى والثروة. ويصف الجغرافيّون دُور التّرف التي كان يقيم فيها تجّارها وأصحاب سفنها، وكانت مبنيَّة من طوابق من خشب الساج المستورَد من الهند وغيره من الأخشاب المجلوبة من شرق أفريقيا. ويحدّثنا صاحب “أخبار الصين والهند” أنّ الشحنات كانت تُجلَب عموماً في سفنٍ صغيرة من البصرة وغيرها من موانئ الخليج العربي إلى سيراف، حيث تُشحَن في سُفن كبيرة تمهيداً لنقْلها إلى الصين. وتكوّنت الصادرات إلى الهند والشرق الأقصى من منسوجات غالية مصنوعة من التيل أو القطن أو الصوف، كالسجاجيد الصغيرة، فضلاً عن المصنوعات المعدنية وخام الحديد وسبائك الذهب أو الفضّة.
كان أمام السفن طريقان إلى الهند: فكانت تستطيع التوقّف في “صحار” و “مسقط” وهما ميناءان على ساحل عُمان يعجّان بالحركة؛ بحيث تتوقّف في صحار وتُزوَّد بقدرٍ من الماء، ثمّ تمخر المحيط فتُزوَّد بقدر من الماء، ثمّ تمخر المحيط الهندي مباشرة إلى “كولم ملي” في جنوب مالابار. وكان بإمكان السفن أيضاً التجوال على طول السواحل، مروراً بجزيرة “كيش” و”هرمز” القديمة و”تيز مكران” و”الديبل” و”المنصور” أو غيرها من موانئ السِند، وما أن تغادر السند تكون قد غادرت المياه الإسلامية. ولهذا لا نعلم إلّا القليل عن موانئ ساحلَي بومباي ومالابار. ولكن لا ريب في أنّ ساحل مالابار كانت له أهمّية اقتصادية لدى المسلمين. فقد كان مصدر خشب الساج الذي كانت تُصنَع منه السفن، وكانت جزر مالديف ولاكاديف مَوْرداً لبعض مواد بناء السفن إذ تُستخرَج هذه الموارد ممّا في هذه المناطق من أشجار جوز الهند. ومن “كولم ملي” أو ميناء آخر على ساحل مالابار يسمّى “بلين”، كانت السفن تسير إلى سيلان جزيرة الياقوت. وكانت السفن الصغيرة تستطيع السير على طول السواحل، عابرةً مضيق “بولك” و”معرة” على شواطئ خليج البنغال.
*كاتب وباحث أكاديمي مصري
الخبر ـ افق