شكّل الاستفتاء على بقاء بريطانيا في الاتّحاد الأوروبي، أو الخروج منه، مفاجأة بريطانية وأوروبية ودولية. ستكون لهذا الخروج مضاعفات محليّة وخارجية، منها ما يعتبره أنصار الخروج إيجابيّات ستحصدها بريطانيا، ومنها ما يعتبره أنصار البقاء مغامرة ستدفع بريطانيا أولاً أثمانها السلبية، ومعها الاتّحاد الأوروبي ثانياً. ما الذي أفضى إلى هذه النتيجة؟ وما المقدّمات التي أوصلت إليها؟ السؤال يقضّ مضجع دول ونُخب كثيرة في هذا العالم، وسيكون مدار نقاش وتحليل لفترة غير عابرة من الزمن.
لم تدخل بريطانيا الاتّحاد الأوروبي إلّا في العام 1973، أي بعد اثنتَين وعشرين سنة على تأسيسه. معارضة الدخول كانت واسعة ومتحفّظة، وهو ما أدّى إلى هذا التأخّر. ومنذ دخولها، كانت لها اشتراطات ظلّت قائمة إلى اليوم في ميدان العُملة، حيث احتفظت بريطانيا بالجنيه الاسترليني مقابل اليورو لسائر دول الاتّحاد. ولم تقبل باتّفاقية “شنغين” التي تُلغي الحدود بين الدول الأوروبية، ولا قبلت الحدود المفتوحة مع أوروبا. خضع الأوروبيّون لهذه الشروط رغبةً في دخول بريطانيا لما تمثّله من أهمّية سياسية واقتصادية واستراتيجية، أوروبياً وعالمياً. على امتداد أربعة عقود، أسهمت بريطانيا بفعالية في مهمّات الاتّحاد الأوروبي، ولم تكن الاعتراضات خافية طوال تلك الفترة على الوجود في الاتّحاد، لكنّها لم تصل حدود المعارضة الشعبية الواسعة، إلاّ في العقد ونصف العقد الأخير من القرن الجاري، حيث كانت قوى الخروج ودعاته، تعمل بدأب من أجل استفتاء يضمن لها النجاح.
تدخّلت عوامل عدّة خلال السنوات الماضية لتزيد من قوى الدعوة إلى الخروج، أوّلها ناجم عن النظام الرأسمالي العالمي وأزمته الاقتصادية وانعكاساتها الاجتماعية. فاعتَبر البريطانيون أنّ الأزمة التي تضرب بلادهم، والبطالة المرتفعة في وسط سكّانها، إنّما تعود في أسبابها البنيويّة إلى الوجود داخل الاتّحاد الأوروبي، من دون التوقّف عند الأسباب الأصليّة للنظام الرأسمالي وسياساته الاجتماعية.
عاملٌ ثانٍ يرتبط بالأوّل ويتّصل بالهجرة إلى بريطانيا والتي يصل تعداد المهاجرين إليها إلى حوالي مليون شخص سنوياً. تفاقمت الهجرة مع الحروب الأهلية المُندلعة في العالم العربي، وخصوصاً في سوريا والعراق وليبيا، والتي أدّت إلى تزايد أعداد المهاجرين واللّاجئين. لكنّ الأخطر في هذا الجانب، كان في ربط البريطانيّين موضوع المهاجرين واللّاجئين بالعمليات الإرهابية، من خلال دخول إرهابيّين إلى بريطانيا بحجّة أنّهم مهجّرون من بلدانهم.
عامل ثالث يتّصل بسيادة شعور أنّ بريطانيا تخسر شيئاً فشئياً من خصوصيّتها وهويّتها عندما تضطّر إلى إيواء المهاجرين وإعطائهم الجنسية لاحقاً، وأنّ الغالبية في المستقبل لن تكون للسكّان الأصليّين. يدعم ذلك خوف بريطاني من دخول تركيا إلى الاتّحاد الأوروبي وإغراقه بملايين السكّان من المسلمين، الذين يزيد تعدادهم في “آسيا الصغرى” على سبعين مليون نسمة، وهو سيُغرِق بريطانيا وأوروبا بطوائف تهدّد هويّتها الدينية.
هذه العوامل كانت تتفاعل تحت عباءة بريطانيّة وأوروبيّة تلتقي على تصاعد القوميّة الشوفينيّة والعنصرية العرقية في كلّ بلد، مقروناً بعداءٍ للأقلّيات الإسلامية والعربية، مستحضرةً العمليات الإرهابية، ابتداء من الحادي عشر من سبتمبر 2001 وصولاً إلى كلّ العمليات التي جرى تنفيذها في الأعوام السابقة.
وسط هذا المناخ، صعدت أحزاب اليمين المتطرّف، في معظم الدول الأوروبية، ومنها بريطانيا، محكومة بهاجس الإرهاب والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والخوف على المصير، رافعةً شعارات الاستقلال مجدّداً، في فرنسا وهولندا وبلجيكا..
في بريطانيا، تشكّل حزب يميني متطرّف، أخذ تعبير “حزب الاستقلال” اسماً له، بما يوحي أنّ بريطانيا كانت مُستعمَرة وفاقدة لسيادتها داخل الاتّحاد الأوروبي، ومستعيداً حلم الإمبراطورية البريطانية الذي تبخّر داخل الاتّحاد. لا يستغربنّ أحد عودة هذه الموجة من العنصرية إلى أوروبا، فقد نشأت النازية والفاشية وسط أجواء مشابهة، ودعمت هتلر وموسوليني وفرانكو موجاتٌ شعبية هائلة، عاد بعضها إلى الاستيقاظ اليوم، بعدما دفعت أوروبا أثماناً باهظة للانحياز الشعبي الساحق إلى الفاشية والنازية.
أمّا وقد اختار البريطانيون، وبواسطة العملية الديمقراطية، الخروج من الاتّحاد الأوروبي، فإنّ النقاش سيتمحور، من الآن وصاعداً، حول نتائج هذا الخروج وتداعياته، داخلياً في بريطانيا، وخارجياً في أوروبا.. واستطراداً في العالم. على الصعيد الاقتصادي، ستتأثر بريطانيا سلباً، لأنّ السوق الأوروبية هي الأساس لاقتصادها؛ ستخسر الامتيازات والتسهيلات التي يقدّمها الاتّحاد لأعضائه، ويذهب اقتصاديون إلى التحذير من مخاطر الركود الذي سيُصاب به الاقتصاد البريطاني، وفي المقابل ستتأثّر أوروبا اقتصادياً، بالنّظر لما كانت بريطانيا تقدّمه في هذا المجال، وخصوصاً في موضوع الهجرة، وذلك في ميادين التبادل. أمّا الخسائر المباشرة، فقد أصابت الجنيه الاسترليني الذي فقد عشرة في المائة من قيمته لدى إعلان النتائج. كما سيتأثّر اليورو انخفاضاً مقابل الدولار الأميركي. كما يشير اقتصاديون إلى انعكاسات سلبية ستطال قطاعات اقتصادية كثيرة، منها على سبيل المثال، قطاع العقارات الذي سينخفض بنسبة غير قليلة.
سياسياً، ولأنّ بريطانيا تشكّل الثقل الأساسي في موقع الاتّحاد ودوره، فإنّ خروجها سيمسّ الموقع البريطاني وفعاليّته أوّلاً، ثمّ سيتأثّر الاتّحاد الأوروبي سلباً بهذا الخروج، بالنظر إلى التنافس مع قوى إقليميّة ودوليّة أخرى تنظر إلى هذا التفكّك بعَين الإيجابية على موقعها، وخصوصاً منها الولايات المتّحدة الأميركية وروسيا. في ظلّ أزمات تعصف بالعالم حالياً، لن تستطيع بريطانيا “المُستقلّة” أن تمارس دورها وتأثيرها في أوروبا والعالم، كما كانت تمارسه من ضمن مجموعة الدول الأوروبية.
إذا كانت بريطانيا قد أَفتَت بالخروج من أجل استعادة استقلالها، كما روّج كثيرون من دعاة الخروج، إلاّ أنّ السؤال الأخطر سيكون: هل ستستطيع بريطانيا أن تحافظ على وحدتها وتمنع تفكّك مقاطعاتها، فتعود دولة صغيرة ذات فاعليّة ضئيلة؟ السؤال لا ينجم عن فراغ. فبريطانيا التي تضمّ في صفوفها مقاطعتَيْ إسكوتلندا وإيرلندا، ستكون أمام امتحان بقاء هاتين المقاطعتَين في الاتّحاد البريطاني. جاءت نتيجة التصويت في هاتَين المقاطعتَين، ومعهما مدينة لندن، بنسبة سبعين في المائة لمصلحة البقاء في الاتّحاد، فيما كانت الغالبية الساحقة من سكّان الأرياف، وخصوصاً في مقاطعة ويلز، مؤيّدة للخروج. وفور صدور النتائج، ارتفعت أصواتٌ في كلٍّ من اسكوتلندا وإيرلندا تدعو إلى الاستفتاء للاستقلال عن الاتّحاد البريطاني، وهي دعوة قد تلقى نجاحاً واسعاً، وتُنهي في حال نجاحها دور بريطانيا العظمى.
أمّا النتائج على صعيد الاتّحاد الأوروبي، وعلى الرغم من الحديث الذي يدور عن تفكّكه، فإنّ التوقّعات لا تزال بعيدة عن مثل هذا الاستنتاج، من دون التأكيد على هزّة قويّة أصابت الاتّحاد نتيجة خروج بريطانيا منه. قد يصبح الأمر وارداً في حال نجحت الدعوات في فرنسا وهولندا وغيرها من الدول الأوروبية للخروج من الاتّحاد، وهو موضوع برَسم المستقبل.
إذا كان صعود القومية والعنصرية العرقية أحد الأسباب الرئيسة لنجاح دُعاة الانفصال في بريطانيا، فإنّ الموجة الصاعدة في فرنسا وألمانيا وهولندا وغيرها- متغذّيةً من عنصرية المرشَّح الأميركي الجمهوري دونالد ترامب- ستتصاعد وتتغذّى من النجاح البريطاني. قد تكون أوروبا أمام مرحلة سياسية جديدة تفسح فيها المجال لليمين المتطرّف، لكنّها بالتأكيد ستدفع ثمن السياسات غير العقلانية للقومية والعنصرية الصاعدة، وهو ثمن ستدفعه شعوب أوروبا أولاً. ليس مستغرباً أن تتّخذ شعوبٌ ما خيارات خاطئة في تاريخها ثمّ تدفع أثمانها غالياً. كما لا تُنتِج الديمقراطية دوماً حكومة صالحة. فالديمقراطية أتت بالفاشية إلى الحكم، كما تشكّل اليوم السلاح في وجه عودتها.
*كاتب من لبنان
الخبر- افق