مات شمعون بيريز أحد قادة المشروع الصهيوني في فلسطين. شيّعه شعبه والعالَم مكرّماً، وانقسم حول المشاركة في تشييعه الفلسطينيون. الانقسام المُشار إليه، جاء بين عرب الداخل الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، وعرب “الدّولة الفلسطينية”، الذين يسعون إلى أن تكون لهم دولة يحملون جنسيّتها، مثلهم مثل باقي الشعوب التي احتلّت لها أمكنة “تحت الشمس”.
الانقسام الفلسطيني حول الحدث الجنائزي الإسرائيلي، يتضمّن اختلافاً سياسياً في الرؤية، وينطوي على تمييز واضح بين الموقعَين الفلسطينيّين اللذَين صدر عنهما الاختلاف.
الجهة الرسمية الفلسطينية، ممثَّلة برئيس السلطة محمود عباس، برَّرت مشاركتها بالقول “إنّ الهدف من المشاركة هو إيصال رسالة للمجتمع الإسرائيلي مفادها أنّ الشعب الفلسطيني متمسّك بخيار السلام، وأنّه يُقدّر الذين عملوا من أجل هذا الخيار، مثل بيريز”. لكنّ القائمة العربية المُشترَكة، المؤلَّفة من الأحزاب العربية، وتحتلّ ثلاثة عشر مقعداً في الكنيست، لم تنظر إلى سلمية الراحل شمعون بيريز، بل استعادت دَوره في رعاية الاستيطان اليهودي في الأراضي المحتلّة، وذكَّرت بأنّه هو صاحب فكرة مفاعل ديمونا وامتلاك القدرة النووية، وبأنّ مجزرة بلدة قانا اللبنانية في العام 1996 حصلت في أثناء تولّيه المسؤولية. لهذه الأسباب رأى النوّاب العرب في الكنيست، أنّه “لا يوجد ما يدعوهم إلى المشاركة في جنازته”.
اتّفاق أوسلو كقارب نجاة فلسطيني!
لدى التدقيق في الموقف الفلسطيني المُزدوج، تلوح إمكانية العودة إلى دمجه، بحيث يعطى صفة الموقف المركّب، الذي يصدر عن مصالح فلسطينية واحدة، يلتقي أبناؤها فوق مساحة فلسطين التي في اليد، وفلسطين التي في البال، وعليه يصحّ القول إنّ الموقف الفلسطيني العامّ جاء في شكل مناورة سياسية منسجمة تتألّف من شقّين: الرفض من الداخل، حيث الإرادة المسلوبة والهويّة الملغيّة، والأرض المنهوبة والشخصية الملغاة… والرفض من الخارج، أي من دولة السلطة المحاصرة، حيث الممرّات الاضطرارية لبعض السياسات “الترقيعية”، وحيث بعض الضرورات السياسية الخاصّة والعامّة، التي تبيح بعض المحظورات الخفيفة غير الضّارة، والتي ربّما كان الإحجام عن تجرُّع مرارة أقداحها، أكثر تكلفة، في السياسة وفي الميدان، من الإقدام على تناول شراب المرارة. لقاء الخطَّين الفلسطينيَّين المُختلفَين مؤقّتاً، على صعيدَيْ المنطق والممارسة، يتمّ عند نقطة التقاء سؤال ما العمل الفلسطيني، في ظلّ الأوضاع القاهرة والغادرة المُحيطة بقضيّة فلسطين، وفي ظلّ اختلال موازين القوى الصراعية بين إسرائيل والفلسطينيّين، هذا الاختلال الذي يبدو أنّه ذاهب إلى مزيد من التفاقم، تأسيساً على ما هو معلوم ومتوقَّع من سياق السياسات الدوليّة، وعلى ما هو مرجّح في سياق استمرار تدهور الأوضاع العربية.
لقد كشفت المشاركة الفلسطينية، من ضمن عوامل كاشفة عديدة، مدى الضعف الذي ارتدّ إليه الوضع الفلسطيني، وظهر أن التمسّك بخيار السلام بات بمثابة ملجأ وحيد للسياسة الفلسطينية، وأنّ الصمود على خطّ جوهر اتّفاق أوسلو، أو مضمونه الأهمّ الذي يقضي بحلّ الدولتَين، هو قارب النجاة الوحيد الباقي للسياسي الفلسطيني، في ظلّ العصف السياسي الدّولي، الذي قلب الأولويّات، وبدَّل الاهتمامات، ودفع المسألة الفلسطينية إلى الظلّ الذي لا يبدو أنّه قصير الأمد، أو أنّه من صنف الانتظارية التسووية المؤقّتة، التي ينشط في أروقتها العاملون على إنضاج نقاطها العالقة.
الانتظاريّة القاتلة بمقياس الزمن الفلسطيني
تختلف الانتظارية الفلسطينية باختلاف الجغرافيا، ما هو محتَلّ منها للأبد، وما هو مُحتَلّ منها لأمد، هذا في الواقع الفلسطيني الجغرافي يعني الأرض التي احتلّت في العام 1948، وتلك التي استُكمل احتلالها في العام 1967؛ لكنّ الواقع الانتظاري في الجغرافيا الفلسطينية ليس واحداً، فمَن ينزل أرض “احتلال الأبد”، يستطيع الانتظار بهدوء ورويّة، ويستطيع أن يرفع الصوت السياسي وهو مُطمئِن إلى حقوقه وواجباته كمواطن في دولة يحمل هويّتها وجواز سفرها، هذا “الغُنم” دفع ثمنه فلسطينيّو 1948 سلفاً، لذلك، فليس لديهم ما يخسرونه على صعيد المطالب السياسية والوجودية، وما يقع ضمن حساب خسائرهم، هو من صنف الخسائر السياسية العادية، التي يعرفها كلّ مواطني أيّ بلد عادي. ضمن هذا الموقع السياسي الاجتماعي يتضمن دفترُ الربحِ أو الخسارة عددَ المقاعد النيابية، وحجمَ التقديمات الاجتماعية، ومسائل عدم التمييز والمساواة أمام القانون؛ لكنّه لا يطاول مسألة الكيانية الوجودية ذات الطابع “الهويّاتي”، في الجغرافيا والسياسة والاجتماع، مثلما هي الحال مع أهل جغرافيا الانتظار في أرض العام 1967، وفي سائر أرجاء الشتات الفلسطيني.
ولدى الحديث عن الانتظارية الفلسطينية العامّة، لا يغيب عن البال أنّها انتظارية مريرة، هذا حتّى لا نذهب إلى القول إنها انتظاريّة قاتلة، بمقياس الزمن الفلسطيني، الذي يبدو أصحابه مُجبرين على إحداث خرقٍ ما في جدار الحصار السياسي الذي يعيشون خلف أسواره، وأيضاً بمقياس الزمن الإسرائيلي الذي بات في الراهن طليق اليدَين، فلم يتأخّر عن تسريع وتيرة استيطانه، ولم يتخلّف عن استكمال سرقة الأرض الفلسطينية، وعن قضم “أملاك الغائبين”، مستغلّاً أيّما استغلال انشغال العامل الدّولي برعاية الخراب العربي العامّ، وموظّفاً الخراب إياه في تمكين عناصر قوّته وسيطرته، بعدما فقد العرب، أفراداً وجماعات، الأهمّ من عناصر قوّتهم، فآل وضع الفلسطيني إلى صوغ يومياته السياسية، وفي مسمعه مضمون عبارة: “يا وحدنا”. هذه التي توازيها الآن حقيقة ما “أكثرنا” الإسرائيلية، أي ما أوسع تحالفاتنا، وما أكثر الذين يخطبون ودّنا، وأولئك الذين تفهّموا أخيراً وجهة نظرنا حول “قلقنا الوجودي”، وحول الخطر الذي مصدره بلاد عدوّنا الواحد: العروبة من جهة، والإسلام السياسي من كلّ الجهات.
عود على بدء، ذهب الفلسطينيون إلى حدث موت رئيس الدّولة ذهاباً سوريالياً، لكنه كان الذهاب السوريالي الواقعي المركّب، وفق ما جرت الإشارة إليه. هو سوريالي، أن يذهب السياسي الفلسطيني إلى تشييع عدوه، وقد ارتسمت على محيّاه علامات الأسى، وأن يكون مضطراً لإظهار الحزن وافتعال التجهّم، على من كان سبباً لكلّ الحزن الفلسطيني الحقيقي.
الامتناع عن المشاركة، حيث الحزن الفلسطيني يبدو مصطنعاً، هو سورياليّة أقرب إلى الواقعية، فابن الأرض المحتلَّة سابقاً، هو الواقعية الفلسطينية، على صعيد الهويّة الموروثة الأولى، وهو المخيال الهويّاتي على صعيد الهويّة الإسرائيلية المفروضة الثانية، لكنّ رفضه أقرب إلى الملموس الواقعي، لأنّ مضمونه سياسي، أي من موقع الخصومة السياسية ذات السياق السياسي الواحد، من ضمن البلد الواحد، ما يبدو غير غريب أو مُستغرَب، لأنّ كلّ ما في الأمر أنّ المواطن يرفض المشاركة في تشييع رئيسه، وهذا حقّ تعبير وإبداء رأي يكفله القانون.
لكن ما يقع ضمن السوريالية العالمية، هو هذا الإصرار الذي يبديه رؤساء السياسات الدّولية، عندما يحزنون جدّياً لغياب أحد مُهندسي سياسات الاقتلاع الفلسطيني، وعندما يتمسّكون بإنكارهم وقائع التاريخ العربي، وحقيقة الجغرافيا فيه، وعندما يمتنعون عن التقدّم، خطوة واقعية واحدة، على درب استعادة الواقعية الفلسطينية وتمكينها، بل يفرضون عليها ارتداء لبوس سورياليّتهم اللّاغية لتظلّ قضية فلسطين مسألة لا واقعية، يتكفّل التاريخ أخيراً بتركها في زاوية النسيان، على الرّغم من كلّ واقعيّتها الملموسة.
وجود فلسطيني واقعي. احتلال سوريالي. وبينهما تستمرّ مسيرة المرارة الفلسطينية.
*كاتب من لبنان