وكالة أنباء موريتانية مستقلة

إرهاصات المقاومة الفلسطينية بعد النكبة

شهدت المرحلة التالية لنكبة 48, ما يشبه الصدمة, وفقدان التوازن. وهى نفسها الفترة التي شهدت ميلاد إرهاصات البحث عن ألذات والطريق, وإرهاصات المقاومة.
ولخصوصية الرواية كجنس أدبي معقد ورحب, متعدد الشخصيات والآراء والأحوال, مع تنوع الأزمنة والأمكنة يعتبر التوقف مع بعض أعمالها مؤشرا هاما للاستدلال على تلك المقولة. كما أن القصة القصيرة تضيف ميزة حرية اختيار الكاتب في أنماط شخصياته وتنوع موضوعاته , حتى وان تمسك بوجهة نظر ما.

منذ وعد “بلفور” وخلال فترة الاحتلال الانجليزى التي سلمت “فلسطين” إلى أنياب الصهيونية, رصد الأدب الفلسطيني القضية, وكتب الأديب وجهة نظرة.. وهو بذلك حلقة ذهبية من حلقات الأدب العربي المعاصر. وهو ما رصده الباحث الأكاديمي الفلسطيني في رسالة لنيل درجة الدكتوراة موضوعها “حياة الأدب الفلسطيني الحديث من النهضة حتى النكبة” للباحث “عبدالرحمن ياغى”, ورسالة الماجستير “موقف الشعر العربي الحديث من محنة فلسطين” للباحث “كامل السوافيرى”. وقد توالت الدراسات الأكاديمية, خصوصا بعد نكسة 67.
ربما نشير إلى بعض ملامح الحياة الثقافية الفلسطينية خلال القرن العشرين, بعرض لبعض الملامح, منها: وصلت أول مطبعة إلى فلسطين عام 1830م, وأول مطبعة وطنية افتتحت عام 1908م(حيفا).. وتوالت المطابع بعد ذلك التاريخ. فكانت الصحف والدوريات الوطنية..ونشطت الحياة الثقافية على شكل الندوات والمعارض وخلافه..حتى كانت نكبة 1948م.
منذ نكبة 1948م حتى عام 1967م, خنقت الحياة الثقافية, وهو ما عبر عنه

“د.ياغى” في رسالته: “إنما حل بالناس في هذا الوطن الصغير صرف النفوس عن حفظ تلك المواد الأدبية…”.
مع ذلك ما كان في نكسة 67, كان دافعا إلى ضخ الدماء في العروق, ليس في البلدان التي أصيبت مباشرة (مصر- سوريا – الأردن), بل كل البلدان العربية, بما فيهم أصحاب القضية الأم في فلسطين.

وجد الكتاب الفلسطيني من يهتم به, ووجد الواقع المقاوم من يرصده. وقد صنف كتاب “مصادر الأدب الفلسطيني الحديث” (د.محمد الجعيدى) المنتج الأدبي على أربع مراحل: الأولى تبدأ مع النهضة الحديثة حتى عام النكبة 1948م.. الثانية من 48 حتى 67.. الثالثة من 67 حتى 87 (حيث بداية انتفاضة الحجر الفلسطيني والتي استمرت لخمس سنوات, لتتجدد في انتفاضةالقدس).
سجل الأدب الفلسطيني قضيته (شعر / قصة)..الشيخ يوسف النبهانى – أبو الاقبال سليم يوسف اليعقوبى – عباس الخماش – الشيخ أبوالسعود – على الريماوى – خليل السكاكينى – محمد اسعاف النشاشى – سليمان التاجى الفاروقى – اسكندر الخورى – ابراهيم الدباغ – عبدالرحيم محمود – برهان الدين العبوشى – إبراهيم طوقان – محمد على الصالح. ثم في القصة: محمد أحمد التميمى – ميخائيل جرجس – خليل بيدس – مي زيادة.
وتعرفنا على التاريخي المقاومى.. ثورة البراق, الثلاثاء الحمراء, إعدام الشيخ فرحان السعدي, استشهاد عزالدين القسام..مع أحوال الاستشهاد والثورة المتجددة. وقرأ القارىء الأعمال النثرية الراصدة مثل: “البطلة” خليل بيدس, “الظمأ” محمود سيف الدين الايرانى, “الأخوات الحزبيات” و”شمعون بوزاجلو” نجاتى صدقي, و”مذكرات دجاجة” اسحق موسى الحسيني.
يمكن الإشارة إلى ثلاثة اتجاهات نقدية , هي التي اتسمت بها الأعمال الأدبية عموما والقص خصوصا , حتى عام النكبة: الاتجاه الاحيائى ..الاتجاه الرومانسي, الاتجاه الواقعي النقدي.
كانت الفترة التالية على عام النكبة, قاسية إلى حد الموات, وهو ما يجعل الراصد للأدب الفلسطيني يبحث طويلا حتى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي, فتبدأ الارهاسات المقاومية التي تعبر عن نفسها أدبيا

ربما لعبت عناصر كثيرة دورا حتى انتبه الفلسطيني إلى وجدانه, بعد أن ضاقت به الأرض على سعتها!.. وجود بعض الأدباء المخضرمين (قبل وبعد النكبة) والذين استمروا على الأرض ولم ينتقلوا إلى أي من الدول العربية.. نشأة جيل جديد, ربما ولد قبل النكبة إلا أنه انتبه وترعرع بعدها, فشاهد وعرف الحقيقة القاسية.. ربما الشكل الحزبي للمحتل, حيث انتسب عدد غير قليل من شباب الأدباء والشعراء إلى الحزب الشيوعي, والذي قدم حماية قانونية ما.. المنتج الأدبي المقاوم لأدباء فلسطين من خارج الأرض المحتلة.. وسائل الإعلام التي نشطت وتقدمت في الدول العربية المجاورة لفلسطين, ومنها “الإذاعة” خصوصا في مصر وسوريا
جاء نشر كتاب “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1936- 1948” في 1967م, وقد نشر مرة ثانية بمزيد من الإضافات بعنوان “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 – 1968” للكاتب “غسان كنفاني, بمثابة الميلاد لترسيخ مصطلح نقدي جديد, ألا وهو “أدب المقاومة”.
أما الأدباء المخضرمين لتلك الفترة (التالية بعد النكبة): مؤيد إبراهيم – يوسف نخلة – حنا أبوحنا _ توفيق زياد – حبيب قهوجى – عيسى اللوبانى – حنا إبراهيم – عصام عباسي – محمود سيف الدين الايرانى – نجاتي صدقي .
ثم أدباء ولدوا قبل النكبة بقليل وأنضجتهم أحوالها: محمود درويش – سالم جبران – توفيق زياد – سميح القاسم – هاشم رشيد – ناجى علوش – سلمى الخضراء – سميرة عزام – غسان كنفاني – على هاشم رشيد – يوسف جاد الحق – الياس خوري.
جاء الفوج الثالث وقد نضجوا في أواخر الستينيات وربما السبعينيات: نايف سليم

– فوزي الأسمر – راشد حسين – توفيق فياض – نزيه خير – فاروق مواسى – حسن حميد.

أما وقد أنضجت التجربة الجميع, فتفجرت الطاقات, فخرجت الأعمال مفعمة بالفن والتقنيات الحديثة (الأسماء المنشورة للاسترشاد وليس للحصر).

“رجال في الشمس”.. والسؤال عن المصير

صدرت تلك الرواية في الطبعة الأولى عاما 1963م. وان طبعت أكثر من مرة – بعد استشهاد الكاتب من جراء وضع قنبلة موقوتة في سيارته في صباح غائم عام 1972م – فهي تعد من أهم روايات المقاومة عموما/ والمقاومة الفلسطينية خصوصا, على الرغم من بساطة التناول والحكى والمعالجة. فالرواية تتسم بقدر وافر من الحكائية الإنسانية, والتعامل مع الجانب الانسانى الضعيف في المرء أي مرؤ..!! ماذا نقول لثلاثتهم وقد رغبوا في البحث عن حياة كريمة, أفضل حالا مما هم عليه؟ .. لكن ماذا نقول والإنسان مقيد بقدره وأهله وناسه, حتى مع الحلول الفردية التي بظنها هي الخلاص.

ترصد حكاية الرواية ثلاثة رجال “أبوقيس”, “أسعد” و”مروان”..بينما “أراح أبوقيس صدره فوق التراب الندى, فبدأت الأرض تخفق من تحته: ضربات قلب متعب تطوف في ذرات الرمل مرتجفة ثم تعبر إلى خلاياه.. في كل مرة يرمى بصدره فوق التراب يحس ذلك الوجيب كأنما قلب الأرض ما زال, منذ أن استلقى هناك أول مرة, يشق طريقا إلى النور قادما من أعمق أعماق الجحيم, حين قال ذلك مرة لجاره الذي كان يشاطره الحقل, هناك, في الأرض التي تركها منذ عشر سنوات, أجابه ساخرا:”هذا صوت قلبك أنت تسمعه حين تلصق صدرك بالأرض…” ص7. فيما “وقف أسعد أمام الرجل لسمين صاحب المكتب الذي يتولى تهريب الناس من البصرة إلى الكويت, ثم انفجر: “خمسة عشر دينارا سأدفعها لك؟ ..لا بأس ! ولكن بعد أن أصل..” ص22

لكن “خرج مروان من دكان الرجل السمين الذي يتولى تهريب الناس من البصرة إلى الكويت, فوجد نفسه في الشارع المسقوف المزدحم الذي تفوح منه رائحة التمر وسلال القش الكبيرة..لم تكن له أية فكرة محددة عن وجهته الجديدة… كانت الكلمات الأخيرة, التي لفظها الرجل السمين حاسمة ونهائية, بل خيل إليه أنها كانت مصبوبة من رصاص:

“خمسة عشر دينارا..ألا تسمع؟” ص36

بتلك القسمة الفنية, والتمهيد لأبعاد الحكاية -البعد الانسانى أساسا– عرضت كل شخصية رؤيتها مع تنامي الفكرة الأصيلة.. ألا وهى الهروب إلى الكويت, حيث الرزق أوفر من الحياة في جنوب العراق. وتأكدت الأزمة وثقلت المهمة, مع متابعة الرجل السمين (أبو الخيزران) المستغل وصاحب شركة الشحن أو سيارة نقل المياه من العراق إلى الكويت.. تلك الشاحنة المزودة بالفنطاس الخاص بتعبئة المياه. لم يفرد الروائي له فصلا, وجعله مشتركا مع ثلاثتهم. وان لم يبخالحيلة, ووصف أفعاله, أنه رجل سمين, يتصبب عرقا, بليدا وحادا في كلماته فظا في سلوكه, وان عرف عنه مهارته في قيادة أية ماركة من السيارات, بل والمصفحات أيضا, وهو ما حدث عندما استولت إحدى القرى عربة مصفحة من الأعداء أثناء معارك 48م. مع ذلك ما الحيلة , وما الحل.. ليس سوى تنفيذ أوامره. وبدأت الرحلة.. بدأ تنفيذ “الصفقة”, وهو الفصل الرابع من الرواية:

“-أنت تريد اذن أن تضعنا داخل خزان ماء سيارتك في طريق عودتك؟

-بالضبط! لقد قلت لنفسي:لماذا لا تنتهز الفرصة فترتزق بقرشين نظيفين طالما أنت هنا, وطالما أن سيارتك لا تخضع للتفتيش؟”

-اسمع يا أبا الخيزران..هذه اللعبة لا تعجبني! هل تستطيع أن تتصور ذلك؟ في مثل هذا الحر من يستطيع أن يجلس في خزان ماء مقفل؟

-لا تجعل من القضية مأساة , هذه ليست أول مرة…” ص61

وعلى “الطريق”-الفصل الخامس- عرفنا أن أبا الخيزران فقد رجولته بسبب مشاركته لبعض الرجال المسلحين, لكنه سقط في يد الأعداء, وفقد رجولته معهم وبسببهم, وقد قطعوا عضوه:

“ببساطة قد ضيع رجولته في سبيل الوطن؟ وما النفع؟ لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن, وتبا لكل شيء في هذا الكون الملعون..” ص71

قد نشعر بالشفقة الإنسانية تجاه الشخصية القميئة أحيانا!!

في الفصل التالي أحكم السائق غلق الخزان على ثلاثتهم, وتابع الرحلة حتى وصل نقطة الحدود, هناك شرب الشاي وسمع النكات ومضى الوقت في السمر..بينه وبين جنود النقطة الذين يضحكون لتعليقاته وآرائه دائما…

أما وقد تذكر الثلاثة, أسرع عائدا بالسيارة, حتى ابتعد, وقف, ثم فتح الخزان:

“تحسس طريقه منحنيا إلى الفوهة, وحين أخرج رأسه منها لم يدر لماذا سقطت في ذهنه صورة وجه مروان دون أن تبرح. لقد أحس بالوجه يلبسه من الداخل مثل صورة ترتجف على حائط فأخذ يهز رأسه..”

أخيرا حرس السائق أن يعد لثلاثتهم, مقبرة لكل منهم, فقط عندما يهبط الظلام, خصوصا أن الليلة بلا قمر!!.. وما انتهت المهمة انزلقت الفكرة من رأسه ثم تدحرجت على لسانه:

“لماذا لم يدثوا جدران الخزان؟؟”ص110

وظل يكررها!!

تثير الرواية فور الانتهاء منها سؤال “الخلاص”.. وما “المصير”؟

..فالحلول الفردية التي تبناها ثلاثتهم, انتهت بموتهم.

..والحل الباحث عن خلاص فردى وبعيدا عن جوهالأرض..الأرض.البحث عن حل الخلاص من المحتل ومن مغتصب الأرض ..ليس له مصير إلا الهلاك.

تثير الرواية الشفقة, حتى على أبى الخيزران (فهو مقاتل سابق, وتأذى بسبب قضية الوطن, تأذى في أشد ما يؤذى الرجل, كما أنه صريحا وواضحا حتى في خسته, فهو يطلب ما طلبه من أجل المنفعة والاسترزاق الخاص. وهو بذلك يكمل صورة الحلول الفردية غير المجدية, مهما بدت الحلول حسنة النية أو غير ذلك).

الخبز المر” والبحث عن طريق!

“ماجد أبو شرار” يعرفه الساسة وقليل من الأدباء. استشهد من جراء قنبلة في غرفة نومه بايطاليا عام 1981م, وهو تاريخ المجموعة! يقول الكاتب “يحي يخلف” عنه في مقدمة المجموعة: “نشرت معظم قصص هذه المجموعة في مجلة “الأفق الجديد” المقدسية, والتي ظهرت في مطلع الستينيات… لعبت دورا كبيرا في تنشيط الحياة الثقافية… وبالرغم من توقف المجلة عن الصدور عام 1966م, إلا أن أثرها على الثقافة في الضفة الغربية والأردن ما زال ماثلا… وقدمت المجلة على صعيد القصة القصيرة عددا من الكتاب, كان من أبرزهم: ماجد أبو شرار, نمر سرحان, صبحي شحروري, محمود شقير, حكم بلعاوى, خليل السواحرى, فخرى قعوار, ويحيى يخلف.لقد تميز “ماجد” من بين تلك الأسماء, ولفتت قصصه انتباه نقاد الأفق الجديد.”

كما أبرز “يخلف” أن فترة كتابة تلك القصص تتميز ببعض الخصائص التي تحمل ملامح المرحلة في إطار مراحل التجربة الأدبية الفلسطينية, والتي تميزت عن غيرها من التجارب العربية, ارتباطها بالمفاهيم الكلية, والتعبير عن الصمود والمواجهة والرفض, كل ذلك في إطار عام حول الوطن, والمواجهة المباشرة مع العدو في حياة الإنسان الفلسطيني اليومي..أو في إطار غير مباشر.. وفى كل الأحوال الأدب الفلسطيني هو أدب مقاوم.

أما ما رصده الكاتب “يخلف” حول كتابات تلك المرحلة:

-أن القصص المنشور على صفحات “الأفق الجديدة” تمثل الارهاسات الأولى لقصة فلسطينية ناضجة.. وهى التي سبقت ورافقت إنشاء “منظمة التحرير الفلسطينية” (أنشأت عام 1965م) حيث بداية الكفاح المسلح.

-أن قصص تلك المرحلة (والمنشورة في الأفق الجديد) تحمل دلالات سياسية واجتماعية للمجتمع المدني الفلسطيني (بعد النكبة في 1948م).

-تميزت قصص “ماجد” بالواقعية ذات المضمون الاجتماعي الملتزم بقضية الكادحين.. مع مسحة تأثر بالفلسفة الوجودية التي شاعت خلال تلك الفترة.

وبعد, فان قارىء قصص المجموعة “خبز مر”, حتما سيجد مصداقية تلك الملامح التي رصدها “يحيى يخلف”..ولا يبقى سوى التقاطها بين ثنايا القصص. وهو ما توافق مع منهجي في تناول الأدب النثري الفلسطيني مرحلة فأخرى.

تضم المجموعة 12قصة قصيرة (توجد قصص أخرى, ربما ستنشر مستقبلا ) وهى:”صورة”, “مكان البطل”, “النجار الصغير”, “أفاعي الماء”, “سلة الملوخية”, “برازق”, “تمزق”, “جسر منتصف الليل”, “الخبز المر”, “وأنهار الجدار”, “الشمس تذوب”, “الزنجية”. يقع الكتاب في 93صفحة, وهو ما يكشف عن حجم القصص.. فلا توجد تلك القصص المطولة تحت عباءة القصة القصيرة, كما كان شائعا في قصص تلك الفترة في الكتابة القصصية العربية. كما أن تاريخ كتابة تلك القصص ما بين 59 حتى 64, أي حوالي خمس سنوات.

:قصة “الخبز المر”

“فائق” شاب يعمل مع “أبوخميس” الشيخ وقد بلغ الخمسين من عمره, يعملان عملا قاسيا في منجم للفوسفات. الأول يحمل خصائص الشباب من فتوة وعفوية ورغبة في البحث, على الرغم من كل الظروف الصعبة التي يعمل في ظلها. بينما الآخر شيخا مهموما طول الوقت ولا رغبة عنده إلا في الصمت! نجح الشاب في اقتحام شرنقة الشيخ, فعرفنا هموم الرجل وآماله.. “سهيلة” ابنته المتفوقة في الدراسة حصلت على المرتبة الأولى في صفها.. الملعونة “ليلى” تحلم بسيارة حمراء ناعمة. أما الهم الأكبر فهو مرض الشيخ..بدأ نور العين يذوى, ولا يريد الشكوى حتى لا يفصل من العمل. المصمصدور, ي لم يكشف عنها إلا قبل غيابه الغامض عن العمل..أنه مصدور , مريض بداء السل, وأيضا يطوى آلامه داخل صدره.كل ما كان يتمناه, ويكرره كحلم متجدد وأمنية غالية يرددها للشاب: كان يتمنى ألا يموت إلا بعد أن تكتمل ابنته سهيل دراستها الثانوية. لكن: “ذات صباح لم يحضر أبوخميس إلى العمل.. علمت أن المرض بدأ ينتصر, وذهبت إلى بيته… نوبات السعال بدأت تخمد وتهدأ, جذوة الحياة في عينية تخبو رويدا رويدا, ونظرة مسكينة محملة بألف معنى تواجهني كلما نظرت إلى عينيه, وسهيلة وأمها والبنات ينتحبن بصوت خافت, وأغمض عينيه ورفع كفه المعروقة, وانتفض, وسقطت كفه على صدره وأسدلت الغطاء على الوجه الهارب من الحياة” ص70

:قصة “مكان البطل”

“قلة….أولئك الذين كانوا يعلمون أن العاصفة وشيكة..وستأتى مزمجرة عنيدة طاحنة..أما الكثرة..فقد استسلموا لراحة لا لذة فيها…فهم يعلمون أن الراحة سيعقبها تعب.. وينظر إبراهيم إلى ساعته ويسحب نفسا أخيرا من لفافته ويلقيها ثم يدوسها….يتمتم:”إنها النهاية…”.ص18

تلك هي بداية القصة, والتي كتب تحت عنوانها إهداء “إلى روح البطل.. إبراهيم أبودية” (وهى الوحيدة المهداة إلى أحدهم).

أما وقد أثار عنوان الجريدة غضبه, فقد كتب عليها “القدس تستسلم”.. حتى أنه مزق الجريدة. يخرج من حجرته ويطلع على أحوال الجنود (الوحدة تحتل إحدى القلاع الهامة عسكريا). يقابل الجندي “جبر”, يتحاوران حول أخبار الهجوم الوشيك من الأعداء على القلعة.. وهو الهجوم الخامس بعد فشل الأربع هجمات السابقة!

الساعة عبرت السادسة مساء, وقرب الهجوم على بدايته, ويشرد القائد “إبراهيم”..في زوجته وأسرته, في أفاعيل العدو الغاصب, في الاحتمالات المنتظرة.. إلا أن “جبرا” الجندي النشط جاء بالخبر..الهجوم هذه المرة مع استخدام الدبابات!! تكفل “جبر” و”عبدالرحمن” بمنطقتهما لساعات, على أمل إعاقة الأعداء بدباباتهم المدرعة. بدأت المعركة, واستمرت لثلاث ساعات.. فقد اثنين حتى الآن وبقى ثمانية وستون. ويذوب سواد الليل مع أنفاس النهار الجديد.. موت وحطام في كل مكان.. والمصيبة أن الدبابات بدأت الآن تأخذ دورها في المعركة. اتصل “إبراهيم” بالقيادة, أمروه بالانسحاب.. وفورا. تابع الموقف, فأمر رجاله بالانسحاب, وبقى “جبر ” المصاب.. وحتى أستشهد في موقعه. “في السنوات القليلة التي تلت موت “جبر”, والتي قضاها “ابرهيم” طريح الفراش بعد إصابته في إحدى المعارك, كان يستدعى “سالم” وإخوته ليذكرهم بولدهم “جبر”.. البطل الذي منح الحياة زملائه نظير موته.”

هاتان القصتان “أنموذج” لكتابة القصة عند ماجد أبو شرار:

-القصة هي حالة إنسانية..سواء بالتناول العسكري البطولي أو المباشر, أو التناول الاجتماعي لعامل أو غير عامل.

-البطولة تعنى “الاستشهاد”, والعمل من أجل الوطن. كما أنها “الصبر” عن علات المرء من جراء هذا الوطن المحتل أو الفقير أو العاجز.

-الخصائص الفنية هي من ملامح كتابة القصة في زمنه ومكانه, وربما تعد القصة عنده أكثر نضجا فنيا, منها عند آخرين من أبناء جيله.

فالراوي العالم بكل خفايا شخصياته ومصائرهم هو المهيمن على العمل, وجهة النظر المباشرة الواضحة تكشف عن نفسها مع السطور الأولى للقصة. لذا كان استخدام ضمي الليل”, هو الغالب بين القصص..إلا قصص “جسر منتصف الليل” ,”تمزق”, و”مكان البطل”, استخدم فيها ضمير الغائب..وقصة “برازق” استخدم فيها ضمير المخاطب.

كما أن غلبة الحكى والسردية جعلت من القصص صور اجتماعية تارة, أو نشيد للبطولة تارة أخرى..(وهو ما كان شائعا في كتابة القصة في حينه).

* السيد نجم

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: هذا المحتوى محمي