وكالة أنباء موريتانية مستقلة

الجزئر: والبحث عن الحل

النزاهة السياسية وسيلة لتحقيق الهدف المشترك وهو تخليص البلاد من حصيلة سلبية في التسيير كانت نتيجة ثقافة سياسية ورواسب فترة غلب عليها التفكير الأحادي، كما كانت نتيجة رؤية توخت وحدة الأمة الجزائرية لكنها حصلت بدلا من ذلك على نفي الآخر، وتفكيك التواصل بين الاتجاهات والتيارات. لم تكن المشكلة على الأرجح في طبيعة النوايا وحقيقة السلوك بل كانت في طرق وأساليب حمائية و وقائية مفرطة وراءها الخوف على مكاسب ثورة لم تحوّل إلى ثروة وطنية أخلاقية، وفلسفة تبني ممارسة سياسية سوية، كما كانت المشكلة في الحذر المبالغ فيه من تأثير إمبريالي أجنبي أو عودة غير مرغوب فيها للاستعمار بوسائل غير متوقعة. هكذا أخطأنا كأمة دون أن نقصد منعطف الديمقراطية، ولفقنا مشروع العصرنة، وكانت النتيجة أننا اتجهنا بصورة مباشرة نحو العنف السياسي والثقافي وسقطنا في شرك العشرية السوداء.
ما ذا علينا أن نفعل اليوم لنضع كل هذا وراءنا ونعمل على توفير مستلزمات وشروط الحل الموضوعية لمصير أمتنا ودولتنا معا وسط ضغوط إقليمية، و تخوفات محلية من فشل الاقتصاد وفساد السياسة؟

الحل ضمن نطاق الدستور الحالي يساعد على تجاوز فخاخه بسرعة.

يبدو مصطلح مرحلة انتقالية ممجوجا بسبب طول مدة استعماله فمنذ 1988 وهذا المصطلح يطل برأسه في كل مناسبة، وما أكثر المناسبات التي وفرت له أسباب العودة إلى صدارة المشهد السياسي، لذلك لا يطمئن معظم العقلاء للمصطلح ويقبلون على مضض فكرة انتقال مباشر أو قصير المدة، ربما للحرج من تهمة التلاعب التي تلتصق بكل اقتراح من هذا النوع. لقد طالت مدة الانتقال السياسي حتى ضاعت مقومات الفرص الممكنة للعودة بالدولة إلى وضع سوي، هل يعود ذلك إلى عجز السلطة منذ 1979 عن الخروج من وضع الانتقال الذي أصبح بسبب الفشل المتكرر للحكومات والمشاريع السياسية وضعا يشبه المرض المزمن؟ الجواب عن هذا التساؤل يفرضه الواقع.

“الجيش هو النظام” هذه قناعة مختلف السياسيين وحتى التكنوقراط في الجزائر، لكن الجيش مؤسسة وطنية لها طابعها العسكري، ولأن كل القضايا الاستراتيجية هي قضايا تعني الجيش، فعندما تضعف المؤسسات الأخرى تجد المؤسسة العسكرية نفسها مضطرة إلى الحلول محلها ولو من باب سد الثغرات أو “سد الذرائع”، وتبقى كل مؤسسة عسكرية عليها مثل هذه المسؤوليات الإضافية المتراكمة مؤسسة مثقلة بالأعباء، أعباء ليست من مسؤولياتها في الأساس خصوصا الأعباء الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وصولا إلى أعباء تفاصيل مثا امتحان الباكالوريا.
في نهاية الثمانينات عانت المؤسسة العسكرية من مشكلة قيادة وبسبب هذه المشكلة تدخلت في السياسة وكان تدخلها كارثيا، لكنها بفضل وحدة الجيش التي يعود الفضل فيها أساسا إلى الوطنيين المخلصين الذين ضحوا من أجل هذه الوحدة تمكنت من العودة التدريجية بالبلد إلى السلم، هذه القوى الوطنية المخلصة هي نفسها التي حافظت اليوم على دماء الجزائريين وحمت حراكهم الشعبي من تلاعبات قوى الفساد السياسي والمالي وتحالفاتها التي لم تكن لتتردد في تكرار تجربة التسعينات غير مبالية بالنتائج.
تمثلت المشكلة في إغراء الحكم وفي الاختراق السياسي الذي حرف المؤسسة العسكرية عن دورها، والمفروض أن العمل السياسي لا يمارسه العسكريون إلا بعد مغادرة المؤسسة وانتهاء علاقتهم بها، أما ممارسة المؤسسة العسكرية للعمل السياسي بطرق مباشرة فهي عبارة عن توريط للمؤسسة لذلك رفضته قيادتها اليوم، والواقع أن كل من يقدم لها استشارة في هذا الاتجاه إنما يقدم لها هدية مسمومة ستؤثر حتما على وظيفتها وفعاليتها كما حدث في أواخر 1991 مهما حرصنا على تفهم نوايا أصحابه.
يمكن من الناحية التقنية تقديم سيناريوهات حلول دستورية، أو مقاربات سياسية، وقد شمل النقاش الدائر مختلف الجوانب التقنية للحل ضمن اجتهادات فقهاء الدستور عبر الإعلام، ومن خلال اقتراحات أحزاب أو شخصيات. بينما جمد البرلمان نشاطه مؤكدا بذلك طبيعته كمؤسسة واجهة خاضعة للسلطة التنفيذية، ولهيمنة أصحاب الأموال الذين يشكلون تركيبته ولا يساهمون في صناعة أفكار. حرص السلطة التنفيذية على تجميد دوره، جعله جزءا من المشكلة، وعجزه عن توفير موقع أو حتى مكان رسمي للنقاش حول الأزمة بين سياسيين من السلطة والمعارضة، كشف عن مزيد من عيوب الدستور الحالي.
لقد بدأ النظام في الجزائر كنظام ثورة مهمته قيادة وتسيير حرب الاستقلال، ولأن تصور الجزائريين عن العمل لإنجاح مطلب التحرير والاستقلال كان تصورا سياسيا وعسكريا في الوقت نفسه فقد أصبح قادة المجاهدين هم قادة النظام بشقيه، ومن الصعب على جيل المجاهدين ومن تلقى تربيته على أيديهم التخلص من هذا التصور في بناء الدولة و تحقيق الجمهورية، وعلى هذا النحو بقيت الأمور في كل مراحل تاريخ الجزائر المعاصر.
هناك اختلاف أساسي في تصور المدنيين والعسكريين للدولة والنظام، وهو الاختلاف الذي نشعر به عندما نتأمل بطريقة مقارنة هذا التصور عن النظام وعن الحكم لدى رجلين من صلب العمل الوطني مثل هواري بومدين وعبد الحميد مهري. لذلك فإن الصعوبة تكمن في إيجاد منهجية لبناء نظام يحقق أولوية السياسي على العسكري التي بنيت عليها نماذج الدول العصرية والديمقراطية في الغرب، على العكس مما نجده في الشرق كما هو الحال في روسيا والصين وبلدان العالم الثالث.

إن الحل اليوم يمكن تحقيقه من خلال انتخاب رئيس شرعي بطريقة شفافة ونزيهة يضمنها الجيش، وهذه هي أسرع طريقة للخروج من الوضع الحالي، والدخول في مرحلة جديدة واعدة من الإصلاح الشامل. ومن شأن المشاركة الفاعلة لجميع القوى الوطنية في حوار جاد أن تسهل الشروع في تحضير شروط الشفافية للهيئة المكلفة بتحضير وتنظيم هذا الاستحقاق الحاسم. لتنتقل البلاد في ظل الشرعية إلى مرحلة جديدة من حياة الدولة والنظام تعد عند تحققها بالانتقال إلى نمط مستحدث من التطور والتجديد والإبداع.
في هذا المنطق الجاد نحو الحل يمكن تسوية كل المسائل المتعلقة بطبيعة نظام الحكم الذي يمكن أن يكون نظاما شبه رئاسي، أو شبه برلماني مشكلا الحل لمعضلة طال أمدها: معضلة التقسيم العادل للسلطة والتحكيم المنتج للتوافق بين السياسي والعسكري على حكم مشترك وعقلاني للبلاد على قواعد تحكيم عادلة تقود إلى تحقيق النمط المطلوب من الديمقراطية العصرية، نمط تكفل آليات الضبط فيه القضاء على الانحراف والفساد، وتحول دون عودة الأحادية، أو حصول نمط آخر من الاستبداد، وما يرتبط بذلك من احتكار، وسوق موازية، وبيروقراطية الاقتصاد، وكل أنواع الاختلالات الأخرى المعروفة.

الخبر ـ tsa عربي

Print Friendly, PDF & Email

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: هذا المحتوى محمي