وكالة أنباء موريتانية مستقلة

رسالة “النأي بالنفس” لم تصل: مقابلة مع الدكتور خالد العزي

انها من المواقع الاستراتيجية التي لا يمكن فيها “النأي بالنفس” اطلاقا، اقله تجاه العدو الاسرائيلي. الرسالة الموجهة عبر بوابة فاطمة في كفركلا هي حجر، شتيمة، وقفة نصر، تحدي للاسرائيلي الرابض في المقلب الآخر من الشريط الحدودي الشائك، موقف ناري. هناك تحديدا وقف، قبل ايام قليلة، الأمين العام لمليشيات “عصائب أهل الحق” العراقية قيس الخزعلي، مصرّحا ببزته العسكرية، مما استفزّ سياسيين عديدين، في طليعتهم رئيس الحكومة سعد الحريري الذي ذكّر “حزب الله” بوجوب النأي بالنفس.
هذه المرة، كان شعور بان “النار أُطلقت على الداخل”، قبل العدو، من البوابة. الوقوف عندها توقيع، ورسالة لها وقع. “رمزيتها كبيرة جدا”، باعتراف اهل المنطقة، بحجم الذاكرة التي تختزنها، ذاكرة تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي في 25 ايار 2000. طوال 17 عاما، اقسم امامها عشرات بالتحرير والنصر. وتبقى العين منها على القدس وفلسطين المحتلة. البوابة “محطة دائمة للنصر، ونعتز بها”، على قول احد سكان كفركلا لـ”النهار”. عند بوابة فاطمة، تستمر حكاية التحرير.

“بوابة فلسطين المحتلة”

كفركلا. القضاء مرجعيون. بلدة العروس، وفقا لشرح اسمها. الكلمة سريانية من جزءين: كفر اي القرية، وكلا اي العروس. تبعد عن بيروت 96 كيلومترا، وعن مركز القضاء 6 كيلومترات. مساحتها 5 كليومترات مربعة، “من دون الاراضي الزراعية التي بترها الاحتلال الاسرائيلي، وهي حوالى 2007 دونمات”، وفقا للبلدية.
في الموقع الجغرافي، وفقا لما تحدده البلدية، تقع البلدة في “حضن جبل العويذي المقابل لجبل الشيخ. تبدأ شمالا من تلة العزية التي تحد بلدة دير ميماس، وتمر غربا في خط مستقيم بتلة الشخروب، وتحد بلدة الطيبة، وتصل شرقا الى تلة الظهور، متلاقية مع اصبح جبل الجليل الفلسطيني، وتلتف صوب تلة سردة ومستعمرة المطلة الاسرائيلية. وتنتهي جنوبا بتلال القبوعة والوزاني، وتصل الى بلدة عديسة”. بتعابير اخرى، تكتسب هذه البلدة الجنوبية الشيعية اهمية استراتيجية كبيرة، “لكونها تعتبر، منذ القدم، بوابة فلسطين المحتلة”.
الى جانب معالم اثرية وسياحية عدة فيها، كمقام الخضر وطريق المونس على قمة جبل العويذي والاجران والمغاور وبقايا المعابد الرومانية في جبل الشخروب ومقام النبي عويذي، فرضت بوابة فاطمة نفسها رمزا للمقاومة ضد اسرائيل والتحرير. لماذا هذه التسمية؟ ومن هي فاطمة؟

فاطمة و4 روايات

3 قصص يرصدها الكاتب والباحث الاعلامي الدكتور خالد ممدوح العزي. الاولى تقول بان “البوابة كانت في الأساس، وقبل وجود الكيان الإسرائيلي، المعبر بين لبنان وفلسطين. وعندما جاء الاحتلال الإسرائيلي، بدأ المناضلون ينفذون عملياتهم، بمساعدة بعض الفتيات. وفي احدى هذه العمليات، جاءت احدى النساء، ومعها ابنتها الصغيرة فاطمة، ولم تكن تجاوزت العامين. وعندما وصلت إلى المنطقة، وقعت معركة عنيفة فقدت خلالها المرأة ابنتها. فبدأت تبحث عنها، وسط الرصاص، صارخة “فاطمة، فاطمة”، إلى أن أصيبت، ولم تهتد إلى فاطمة”.
ويروي اهال في البلدة قصة ثانية يرجح صدقيتها العزي، “لكونها الاكثر منطقية”، على قوله لـ”النهار”. ومفادها ان “فاطمة كانت فتاة جنوبية تعمل في مقر الحاكم العسكري الذي كانت البوابة مقر إقامته، يوم كانت المنطقة تُعرَف بالحزام الامني. وعندما كان جنود الاحتلال يرفعون الحاجز الحديدي لفتح البوابة، كانوا يصرخون: جاءت فاطمة. وعند عودتها مساء، كانوا ينادون: افتحوا البوابة، خرجت فاطمة. وما بين الدخول والخروج، كان اسم فاطمة يتردد، فحملت البوابة اسمها”.
في تفاصيل القصة الثالثة، كما يوردها العزي، “دارت معركة بين قوات الاحتلال والفدائيين الفلسطينيين في خراج كفركلا العام 1976. وكان هناك أهال من البلدة يقطفون صباحا الدخان، فأصيبت إحدى الفتيات، ونقلت إلى الداخل الفلسطيني عبر البوابة. وبعد معالجتها، أعيدت إلى قريتها عبر البوابة نفسها، فأطلق عليها اسم فاطمة، تيمنا بالجريحة”.
كذلك، ثمة رواية رابعة لهذه التسمية، اذ “أطلقت تسمية فاطمة على بوابة كفركلا في كانون الثاني 1989، نسبة الى أول امرأة لبنانية عبرتها لتلد في أحد المستشفيات الحدودية الاسرائيلية”، على ما يورد الباحث محمد عطوي في بحث عن “الاقتطاع الاسرئيلي”.

اعتبارات اسرائيلية خاصة

بوابة فاطمة. موقع مهم للمحتل الاسرائيلي، منذ زمن الشريط الحدودي المحتل. وايضا بوابة المقاومة والتصدي لاسرائيل والانتصار عليها، الاكثر رمزية وشهرة بين بقية البوابات والمعابر الحدودية. في كفركلا التي قضمت اسرائيل اراض فيها حتى قبل 1948، واحتلتها على غرار بلدات جنوبية كثيرة لتشكل بها شريطا حدوديا، كانت بوابة فاطمة “نقطة الوصل الاقتصادي بين المنطقة المحتلة واهالي الجنوب”، تحت الاحتلال الاسرائيلي على قول العزي.
خصوصية ضمن خصوصيات اخرى تمتعت بها. فالموقع عسكري استراتيجي بامتياز ايضا. هناك “وضعت اسرائيل خزانات وقود، واقامت مقرا لاذاعة “صوت الجنوب” التي كانت تنطق باسم ميليشيات “جيش لبنان الجنوبي” المتعاونة مع اسرائيل”، على ما يفيد. هناك ايضا “كان الاحتلال الاسرائيلي يعطي تصريحات المرور لدخول الشريط المحتل”. ميّز الاسرائيليون البوابة لاعتبارات خاصة، “ربما لانها شكلت مدخلا رئيسيا لهم، واخضعوها لمراقبة شديدة، بحيث شكّلت النقطة الاكثر حماية لديهم”.
نحو 5 معابر شكّلت مدخلا الى المنطقة الحدودية المحتلة: زمريا، الريحان العيشية، كفرتبنيت، بيت ياحون، الحمرا البياضة. وتعددت البوابات: الجدار الطيب، القنطرة، راميا، الناقورة، مروحين، كفرشوبا، العباد، عيترون، الغجر- الوزاني، العباسية… وفاطمة. في تقويم رصين، “لم تكن بوابة فاطمة تختلف عن بقية البوابات الحدودية”، على قول العزي، “وربما كانت لتلك البوابات، في الاطار العملياتي، اهمية اكبر نتيجة المعارك التي خاضها المقامون هناك ضد الاحتلال الاسرائيلي”.

“بوابة الانتصار”

غير ان ما تتفرد به بوابة فاطمة هي تلك الرمزية القوية التي اكتسبتها بهروب آلاف من افراد “جيش لبنان الجنوبي” وعائلاتهم عبرها، بعد اعلان اسرائيل انسحابها من الجنوب المحتل، في ساعة مفاجئة. 25 ايار 2000. امتدت صفوف سيارات الهاربين عند البوابة مسافات طويلة، وازدحموا عندها. المشهد تاريخي. القوات الاسرائيلية تنسحب، وتخلّف وراءها ميليشيات خائفة، ضائعة، فارة، بعد سلسلة عمليات موجعة للمقاومة في الشريط الحدودي المحتل.
منذ ذلك اليوم، تحوّلت البوابة محجا لعشرات مئات المهللين بالتحرير، بينهم رسميون ونواب ووزراء وحزبيون، وجوه نضالية وفنية… ويلمع بينها المفكر الفلسطيني الراحل أدوار سعيد، الممثل السوري دريد لحّام، الممثل المصري محمد صبحي، رئيس بلدية نابلس المناضل بسام الشكعة، المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، المناضلة الفلسطينية ليلى خالد، “عميد الاسرى” سمير القنطار الذي اغتيل العام 2015، وفود اجنبية…
رجم العدو الاسرائيلي وشتمه البرنامج الوحيد للزوار. تظاهرات، مسيرات، هتافات، عروض عسكرية لـ”حزب الله”، توترات، مناوشات، “تحرشات اسرائيلية” شهدتها البوابة… رمزيتها “انها قريبة جدا من المحتل الاسرائيلي، وفي الوقت نفسه يمكن القيام باستعراضات عسكرية او شعبية عندها، مع توفر ضمان آمن هو وجود قوات “اليونيفيل” ضمن الخط الفاصل الحدودي”، على قول العزي.
اعداد زوار البوابة، على مرّ الاعوام، اكبر من ان تحصى، والمواقف نارية عندها. العام 2005، اتخذ المجلس البلدي لكفركلا “قرارا حمل الرقم 33، وقضى بتغيير اسم البوابة الى بوابة الانتصار، نظرا الى ان تسميتها (الاولى) اسرائيلية المصدر”، على ما اعلن رئيس بلدية كفركلا موسى الزين يومذاك. في ذاكرة البوابة ايضا ان الرئيس الايراني احمدي نجاد تفاداها في تشرين الاول 2010، في اطار زيارته لبنان، رغم الاستعدادات التي اتخذت لاستقباله في كفركلا.
كل سنة، تسترجع البوابة مشهد “الانتصار على اسرائيل” من خلال احتفالات ومسيرات ونشاطات. “انها فخر لنا. ويسعدنا ان تكون مقصدا للاحرار والمقاومين لاسرائيل”، على قول احد سكان كفركلا الذي طلب عدم ذكر اسمه. في ذاكرته، “البلدة صمدت طويلا يوم كانت تحت الاحتلال الاسرائيلي، وكان اهلها مقاومين”. وبعد التحرير العام 2000، تحوّلت “البوابة محطة دائمة للنصر، ونعتز بها”. وستبقى كفركلا “مقاومة حتى تحرير آخر شبر من فلسطين المحتلة”.

“تحرشات اسرائيلية”

“الهدوء” مستتب اليوم في كفركلا، على ما يصف الوضع. اسرائيل في المقلب الآخر، على مرمى حجر كالعادة. والبوابة تحت الرقابة على مدار الساعة. ولأنّها تحمل رمزية معيّنة، أراد الاسرائيليون زيادة ارتفاع الجدار عند البوابة لحجب الرؤية كلّيا من الجانب اللبناني عن الموقع الاسرائيلي الحدودي. ولوحظ أنّها بدأت استخدام بلوكات بارتفاع 7 أمتار (أي بفارق نحو مترين) عند نقطة البوابة تحديدا، والتي تشهد عادة احتفالات ونشاطات لـ”حزب الله” (“النهار”-19/5/2012).
في 5 ايلول 2013، نفذت القوات الاسرائيلية مناورة عند البوابة. توجيه الرسائل تواصل عبرها. في 29 منه، باشرت ورشة اشغال شمال البوابة. وشوهدت للمرة الأولى آلية مزودة معدات خاصة على الطريق المحاذية للسياج، تجرف الطريق، بمؤازرة جرافة عسكرية. واستمرت “الاستفزازت الاسرائيلية عند البوابة. في 22 ايار 2014، أعلن الجيش اللبناني ان دورية راجلة تابعة للعدو مؤلفة من 20 عنصراً عند البوابة اقدمت على تلقيم أسلحتها الفردية، وتوجيهها نحو مركز للجيش، وشتم عناصره بكلمات نابية. وعلى الأثر اتخذت عناصر المركز الإجراءات الدفاعية المناسبة”.
في الجانب اللبناني، القرار اتُّخذ: الجيش و”اليونيفيل” يكثفان دورياتهما على طول الحدود، في حين استحدث ضباط من فريق الارتباط في “اليونيفيل” نقطة مراقبة قبالة السياج التقني في كفركلا لمراقبة الوضع. وتستمر بوابة فاطمة في الحلم بالتحرير، بالقدس المحررة، على مرأى من الاسرائيليين.
Hala.homsi@annahar.com.lb

Print Friendly, PDF & Email

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: هذا المحتوى محمي