وكالة أنباء موريتانية مستقلة

ترامب والقدس: ما الذي أثلج قلوب المسيحيين الصهاينة؟/صبحي حديدي*

«ملايين المسيحيين الصهاينة يضرعون إلى الله كي يمنح الرئيس ترامب شجاعة البدء في عملية نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس، العاصمة التوراتية الأبدية الموحدة لدولة إسرائيل المولودة من جديد»؛ هكذا هتفت لوري كاردوزا مور، مؤسسة ورئيسة منظمة «المطالبة بالعدالة للأمم»، والموفد الخاص عن «المجلس العالمي للكنائس المسيحية المستقلة» إلى الأمم المتحدة، والقيادية البارزة المبجلة في تجمع اسمه «الأصدقاء المسيحيون للجاليات الإسرائيلية». تصريحها هذا يعود إلى شهر حزيران/يونيو الماضي، حين اقتفى الرئيس الأمريكي أثر ثلاثة من أسلافه، بيل كلنتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما، فأرجأ التوقيع على قرار الكونغرس القاضي بنقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس.
اليوم لا تسع الفرحة قلب كاردوزا مور، ولسانها وقلمها، فلا تجد خيراً من صحيفة «هآرتز» الإسرائيلية للترحيب بقرار ترامب الأخير: «توراتياً، وبوصفنا مسيحيين، سوف نقف أمام الربّ ونُحمّل مسؤولية ما نفعل، أو ما لا نفعل، لخير إسرائيل وأخوتنا اليهود. وكما خاطب الرب النبيّ عوبديا، في آخر الأيام: سوف يمحق نسل إدوم لأنهم وقفوا متفرجين بينما كان أخوهم يعقوب (إسرائيل) واقعاً في الأسر فلم يفعلوا شيئاً» قد نُحاسب على النحو ذاته، تُنذر كاردوزا مور. وفي رأس ما يتوجب على المسيحيين أجمعين، ولكن أولئك الصهاينة بينهم على وجه خاص، يأتي تسريع نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، بوصفها خطوة لا غنى عنها من أجل بناء «الهيكل الثالث» الذي يمهد لمجيء المخلّص…
من جانبه كان جوني مور، الناطق الرسمي (غير المعيّن) باسم مجموعة الإنجيليين مستشاري ترامب وكبار أنصاره، قد قال إنّ وضعية مدينة القدس تظلّ ركناً أساسياً في ما حظي ويحظى به ترامب من تأييد المسيحيين الإنجيليين؛ بل هي، في ناظره، تأتي في المرتبة الثانية بعد الهواجس حول التشريعات التي يمكن أن تمسّ الديانة المسيحية. وإذْ يتصفح المرء خلاصات استبيان رأي أنجزه معهد أبحاث أمريكي تابع لجماعة «الشعب المختار»، فإنّ67% من أهل العقيدة الإنجيلية يحملون رأياً إيجابياً عن إسرائيل، و73% منهم يؤيدون تدعيم أمن إسرائيل بشتى الوسائل، و80% يؤمنون أنّ وعد الربّ إلى إبراهيم ونسله يسري على كلّ عهود التاريخ، و76% منهم يعتقدون بواجب المسيحيين في مساندة إسرائيل، مقابل 19% فقط يؤيدون حقّ الفلسطينيين التاريخي في «أرض إسرائيل» التوراتية.
ومن المعروف أنّ الآداب الأمريكية الكلاسيكية، وخاصة في روايات هرمان ملفيل ومارك توين، توفّر مادّة خصبة حول فلسفة عتيقة تضرب بجذورها في الركائز العقائدية التي قام عليها أحد أبرز المعاني الرمزية لنشوء الولايات المتحدة الأمريكية، أي أنها «صهيون الجديدة»، أو «كنعان الثانية». تلك كانت صيغة ميتافيزيقية ـ أدبية، لا تخلو مع ذلك من روح تبشيرية إمبريالية، تكمل النظرية الشعبية الأعمّ التي سادت منذ القرن الثامن عشر في مختلف المنظمات المسيحية ـ الأصولية الأمريكية، والبروتستانتية الإنجيلية بصفة خاصة. وكما هو معروف، تقول هذه النظرة بعودة «المخلّص» إلى عالمنا، لتخليصه من الشرور، حين تكتمل جملة شروط: قيام دولة إسرائيل، أوّلاً؛ ونجاحها في احتلال كامل أرض التوراة، أي معظم المشرق؛ وإعادة بناء الهيكل الثالث في موقع، وعلى أنقاض، قبّة الصخرة والمسجد الأقصى؛ وأخيراً، اصطفاف الكفرة أجمعين ضدّ إسرائيل، في موقعة ختامية سوف يشهدها وادي أرماغيدون، حيث سيكون أمام اليهود واحد من خيارين: إمّا الاحتراق والفناء، أو الاهتداء إلى المسيحية، الأمر الذي سيمهّد لعودة المسيح المخلّص.
الإيمان بهذه العقيدة لم يبدأ مع الحلم الصهيوني أو الوعد بدولة لليهود في فلسطين، إذْ تعود الجذور الأولى إلى القرن السابع عشر، في ذروة حركة الإصلاح البروتستانتي؛ ثمّ، في مطالع القرن التاسع عشر، حين روّج أمثال أزا ماكفارلاند لنظرية مفادها أنّ اضمحلال الإمبراطورية العثمانية سوف يمهد لنشوء الدولة اليهودية المنشودة. كذلك فإنّ الإيمان بالمسيحية الصهيونية لم يقتصر على الفئات الشعبية، أو رجال الدين المنتمين إلى التيارات الإنجيلية، أو المبشرين الشعبويين؛ بل نعثر بين أنصارها على أعلام من أمثال جون أدامز (الرئيس الثاني للولايات المتحدة)، وإسحق نيوتن (دون سواه)، واللورد بلفور (صاحب الوعد الشهير)، ومارتن لوثر كنغ (الذي راوده حلم الحرّية الأشهر)، واللائحة تطول؛ ضمن ممثّلي الثقافة ورجال السياسة والدين، على النطاق الأنغلو ـ سكسوني في المقام الأوّل. كذلك فإنّ تيّارات الأصولية المسيحية (إذْ أنّ التشدد الديني ليس سمة ديانة واحدة منفردة، غنيّ عن القول) لا تكتفي بهذا الطراز من التبشير التوراتي الأقرب إلى الهستيريا، بل تتعداه إلى تشكيل ميليشيات دينية وسياسية مسلحة؛ يتردد أنها اليوم تُعدّ بالملايين، في الولايات المتحدة وحدها. وهي، أيضاً، تنتظم في سلسلة تحالفات عريضة، وتلتقي مثلاً حول مناهضة الصيغة الفيدرالية للحكم في أمريكا، وتدعو إلى (بل هي استخدمت وتستخدم) العنف كوسيلة كفاحية ضدّ الطغيان الفيدرالي. أسماؤها تدلّ عليها: «التحالف المسيحي»، «الأمم الآرية»، «الوطنيون المسيحيون»، «الهوية المسيحية»، «رابطة البندقية الوطنية»…
وفي الولايات التي تُلقّب بـ»حزام التوراة»، نسبة إلى شدّة تديّن أبنائها، عثر ترامب على أخلص أنصاره، وفي طليعتهم ماريون غوردون (بات) روبرتسون، المؤسس والزعيم التاريخي لمنظمة «التحالف المسيحي»، أكثر الحركات الدينية القاعدية نفوذاً وسطوة في السياسة الأمريكية المعاصرة. وكما هو معروف، ذهب روبرتسون إلى درحة وضع ترامب في مصافّ يسوع، وحكى لمئات الآلاف من مريديه هذه «الرؤيا»، في ذروة الحملة الانتخابية: «زارني الله في المنام ليلة أمس وأراني المستقبل. أخذني إلى السماء، وهناك رأيت دونالد ترامب جالساً على يمين الربّ مباشرة». أيضاً، استهجن روبرتسون ما تردد حول فضائح ترامب الجنسية، معتبراً أنّ المرشح الجمهوري «عنقاء سوف تنهض من الرماد»!
وحول عشق إسرائيل، زاود روبرتسون على أعتى عتاة الصهاينة، فاعتبر دخول أرييل شارون في الغيبوبة بمثابة «عقاب إلهي» نزل بحقّ الأخير، لأنه اتخذ «القرار الرجيم» بالانسحاب من غزّة! وخلال العدوان الإسرائيلي على لبنان، سنة 2006، ذهب روبرتسون إلى إسرائيل كي يصلّي مع رئيس وزراء الدولة العبرية إيهود أولمرت، في مكتب الأخير، من أجل انتصار إسرائيل: «أنا هنا لكي أقول إنني أحبّ إسرائيل. أنا هنا لكي أقول إنّ المسيحيين الإنجيليين في أمريكا يقفون مع إسرائيل في كفاحها. ومن أجلنا جميعاً، لا ينبغي لإسرائيل أن تخسر هذا الكفاح. أعتقد أنّ شعب إسرائيل يعرف أصدقاءه، ويعرف أنّ أصدقاء إسرائيل هم المسيحيون الإنجيليون».
فإذا استذكر المرء أنّ الرجل كان مرشّح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية التمهيدية لعام 1988، وحركته تضمّ ما يزيد على 1,2 مليون عضو منتسب، وتُقدّر لائحة بريدها الإلكتروني بنحو 2.8 مليون عنوان، وتدير إمبراطورية هائلة عمادها التبشير الديني المتلفز عبر عشرات الشاشات، التي بينها الشبكة المعروفة CBN، فضلاً عن «قناة الأسرة»، والعديد من الإذاعات، وجامعة معلنة واحدة على الأقل هي جامعة ريجنت… فإنّ القيمة المتبادلة بين المسيحيين الإنجيليين والمسيحيين الصهاينة، من جهة؛ وسياسات ترامب تجاه إسرائيل، ومدينة القدس خاصة، من جهة ثانية؛ لا تترك كبير ارتياب في سبب حبورهم الغامر لقرار نقل السفارة.
.. حتى أنّ المرء قد لا يظلم روائياً كبيراً مثل هرمان ملفيل، إذا تخيّل أنه سيكون في طليعة المبتهجين لمرأى علم الولايات المتحدة يرفرف في سماء القدس، أو أن يبصر في مبنى السفارة هناك أولى مداميك… «كنعان الثانية»!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.